كأغلب المواقف في مختلف الدول العربية والإسلامية، لم يشهد الموقف
الليبي، الرسمي والشعبي، تطورا يكافئ وحشية العدوان ويوازي مساعي كسر صمود
الغزاويين ومخططات تصفية المقاومة.
الفورة التي شهدتها الساحة الليبية الشعبية بداية
الحرب تراجعت، ولم
يقابل تراجع التعاطف والغضب الشعبي الذي عبر عنه نفسه في الساحات والميادين توظيفا
يضمن استمراريته من قبل النخب والمكونات السياسية والاجتماعية والمجتمعية، ويشهد
التفاعل المحدود وغياب الفاعلية مع معاناة غزة على هزال المجتمع المدني الليبي.
الفعاليات التي اهتمت بغزة في الأوساط المجتمعية الليبية كانت محدودة
ولم تأخذ طابع الاستمرارية والتراكمية، فجميعها تقريبا كانت حدثا ينتهي أثره بانفضاض جمعه سواء كان احتجاجا في ميدان عام
أو ندوة في صالة مغلقة، ولم تشهد الساحة الليبية فعالية متصلة النشاط والتواصل
والتعبئة على المستوى المحلي أو تقاطعا مع فعالية ونشاط إقليمي أو دولي،
والاستثناء كان في النشاط الإغاثي، إذ تحركت بعض المنظمات المجتمعية في مجال جمع
التبرعات وتقديم المساعدات للمتضررين في غزة، وحتى هذه كان دورها دون المأمول
بالنظر إلى مركزية القضية
الفلسطينية وأهميتها بالنسبة للرأي العام الليبي.
التعاطف والغضب الشعبي موجود وعلى كل المستويات، إلا أنه تأثر بألفة
الإلف والتعود التي تلازم بني آدم، وما يجعل الموقف الشعبي متقدا هو العمل المؤسسي
الفعال الذي تقوده الحكومة وتفسح من خلاله مجالا رحبا للمجتمع المدني فيكون ذلك
حاضنة للتفاعل الشعبي وموجها مؤثرا لحالة التعاطف والغضب في أوساط المجتمع، وهذا لم
يحصل.
السلطات في
ليبيا ليست أفضل حالا من المكونات المجتمعية، ولا يختلف
كثيرا موقفها غربا وشرقا وجنوبا، وهي لم ترتهن فقط إلى الحالة المزرية في ليبيا
سياسيا وامنيا واقتصاديا، بل تتفيأ ظلال التخاذل العربي والإسلامي، فعندما يكون
موقف الدول الأفضل حالا متخاذلا أو سلبيا، يجد القادة في ليبيا مبررا لسلبيتهم. دع
عنك العجز حتى في التعاطي الصحيح مع قضايا الوطن وكوارثه، فما تزال كارثة مدينة
درنة حاضرة بتداعياتها وأثارها بعد الفيضان الذي ضربها، وما تزال معاناة شريحة
كبيرة من سكانها شديدة، ولم تفلح السلطات في الغرب والشرق في التخفيف من معاناتهم
وإيجاد حل لعشرات الآلاف من النازحين والبيوت المدمرة وانقطاع الكهرباء عن أحياء
عدة... ألخ.
السلطات في ليبيا ليست أفضل حالا من المكونات المجتمعية، ولا يختلف كثيرا موقفها غربا وشرقا وجنوبا، وهي لم ترتهن فقط إلى الحالة المزرية في ليبيا سياسيا وامنيا واقتصاديا، بل تتفيأ ظلال التخاذل العربي والإسلامي
أشدد على أن الحالة "المرضية" التي تصيب الجسد العربي
والإسلامي والتي تصل في بعض مناطقه إلى "الموات" هي بمثابة ذريعة للطبقة
الحاكمة في الشرق والغرب لتقاعصها عن نصرة غزة وأهلها، ولأن القضية الليبية تقترب
من مفترق طرق يذهب إلى توافق أو ينزلق إلى مستوى أخطر من التأزيم، وحيث نشهد حراكا
يوجه المسار السياسي الليبي بدفع خارجي وتفاعلي داخلي، فإنه لا أمل في أن يكون
للفاعلين في الغرب والشرق الليبي إسهاما مهما لتخفيف معاناة أهل غزة أو يلعب دورا
في مواجهة خطط تصفية المقاومة.
بقيت نقطة مهمة وهي محاولة بعض أنصار النظام السابق إثبات تخاذل وفشل
من هم محسوبون على ثورة فبراير، وهم كذلك، عبر بث تصريحات للراحل معمر القذافي
تظهر موقفا صلبا ضد القوى الغربية الداعمة للعدوان الصهيوني أو صرامة تجاه التطبيع
مع دولة إسرائيل.
والحقيقة أن هذا من المناكفة السياسية بل المتاجرة الرخيصة بالقضية
الفلسطينية، فالمواقف والمبادئ تثبت بالخواتيم، وليست فقط بالبدايات التي كانت لها
ظروفها الخاصة، فالجميع يدرك أن مواقف القذافي المتشددة من إسرائيل في سبعينيات
وثمانينينات القرن الماضي انتهت إلى الاستعداد للاعتراف باحتلالها الأراضي
الفلسطينية عبر مبادرة الكتاب الأبيض وتكوين دولة موحدة تجمع بين المغتصب والمغصوب
أسماها القذافي دولة "إسراطين" (أربعة أحرف من إسرائيل مقابل ثلاثة من
فلسطين).
فمضمون هذه المبادرة عبثي، غير أنها تضمنت إشارة مهمة جدا بالنسبة
للغرب ولإسرائيل وهي إعلان القذافي عن تغيير في موقفه الجذري من الاحتلال إلى موقف
أكثر مرونة، والقذافي معروف بطرقه الاستثنائية والغريبة في التعبير عن مواقفه،
وإذا أضفت إلى ذلك تسليم كل ما يتعلق بخطط امتلاك أسلحة الدمار الشامل للأمريكان،
التي كانت حجة أمتلاكها ردع إسرائيل بل وتدميرها، فإن هذه الشواهد تؤكد انسحاب
النظام السابق من ركن المواجهة مع الكيان المحتل، وبالتالي يصير الترويج لمواقفه
القديمة تضليل للرأي العام ومناكفة سياسية لا تليق بمن يدعي الوطنية ويصر على موقف
جذري من الاحتلال الإسرائيلي.