هذه القراءة في
القيادة الصهيونية في إصرارها اللاعقلاني، وبالمطلق،
لحرب العدوان على قطاع غزة، يُستثنى فيها نتنياهو المسؤول الأول عنها، من خلال
موقعه رئيساً للوزراء. وذلك لأن الأسباب الدافعة لنتنياهو ترتبط بمصلحة شخصية له،
وتخصه وحده، وفي مقدمها تعرّضه فوراً للسقوط والمحاكمة، بتهم فساد، فضلاً عن تهمة
مسؤوليته، عما أحدثته المقاومة في قطاع غزة، عندما أطلق قائد كتائب عز الدين
القسام محمد ضيف (أبو خالد)، عملية طوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر
2023. وما تركته من إنزال ضربة قاضية لوجود الكيان الصهيوني، عندما فاجأت الجيش
الصهيوني بشنّ حرب تحريرية، وفي المقدمة "فرقة غزة" التي تمثل قوات
النخبة. ومن ثم إنزال هزيمة عسكرية، بما لا يقل عن ألف ومائتي جندي وضابط، مع مركز
أمني تكنولوجي رئيس.
نتنياهو ليس من الرجال الذين يتحملون، بشهامة، مسؤولية عن أخطاء
ارتكبوها، أو تسببوا بها. فهو لا يملك الشجاعة التي يفترض بالقائد التحلي بها، ولا
تتوفر فيه سمة تغليب أيّة مصلحة عامة للكيان على مصلحته الشخصية، إذ يتعارضان. بل
هو من نوع "القادة" الذين يضحون بالدماء، وبخراب بيوت شركائه في استيطان
فلسطين، لينقذ جلده من السجن.
وهذا البُعد في شخصه، سيظهر جلياً عندما تناقش القيادة العسكرية
المشاركة له في مجلس الحرب، ومعها قيادة الجيش. فضلاً عن عدد من القادة والمسؤولين
العسكريين المخضرمين الذين أيدوه، أو عارضوه.
كانت الصدمة التي مني بها الكيان الصهيوني، زلزالية إنهيارية، وهو
يتابع عبر التلفاز انقضاض كتائب عز الدين القسام، في السابع من أكتوبر 2023، على
الجيش الصهيوني، وميليشيا مستوطنات غلاف غزة. وقد شوهد الجيش مهزوماً من دون
"مقاومة" تُذكر، وهو ينفل نفلاً، مولياً الأدبار، ما بين قتيل وجريح
وأسير وهارب. ثم كيف سقطت مستوطنات الغلاف، وأُسِر من أُسِر فيها، ثم زاد الطين
بِلّة ضربات الطيران الذي جاء متأخراً، مرتبكاً، يتصرف على غير هدى.
من يتابع الصدمة الزلزالية تلك، يتفهم ما حلّ في النفوس من فزع ورعب،
ومن خوفٍ على انهيار الجيش الذي رُكبت حوله، وعلى إنجازاته، كل مكوّنات الكيان.
فهو الذي اقتلع، بالقوّة، ثلثي الشعب الفلسطيني عام 1948، وأحلّ المستوطنين
مكانهم، ليشكلوا "دولة" و"مجتمع" ومؤسسات.
ولكن "الفزعة" منقطعة النظير من قِبَل رؤساء أمريكا
وبريطانيا وفرنسا وألمانيا هي التي سمحت لقادة الكيان بالانتقال من حالة الصدمة
الزلزالية الانهيارية إلى حالة الرد العسكري، وذلك بالاعتماد على سلاح الطيران،
بداية، بقصف غلاف غزة، ومنتقلاً فوراً لقصف المدنيين، وتدمير مساكنهم وجامعاتهم
ومساجدهم وكنائسهم، ومستشفياتهم ومدارسهم.
عندما تُراجع الخسائر اليومية في الحرب البريّة، ولا حاجة إلى جمعها المهول، يعجب الانسان كيف يتم الاصرار على مواصلة حرب لم تحقق إنجازاً عسكرياً واحداً، ولم تخفف مستوى الخسائر على مستوى الرأي العام.
فبالنسبة إلى الداخل الصهيوني تحوّلت الصدمة إلى روح انتقامية هوجاء
من الشعب في قطاع غزة. ناهيك عن الحقد على قادة كتائب عز الدين القسام، والقوات
المقاومة للفصائل التي انتقلت تدرجاً إلى المشاركة في طوفان الأقصى، وأولهم، وفي
مقدمهم كانت كتائب سرايا القدس.
وبهذا حققت الفزعة الأمريكية ـ الأوروبية، لا سيما الأمريكية، هدف
استعادة التماسك العام، والانتقال إلى الهجوم. وقد عزز ذلك حملة سياسية عالمية،
وحملة إعلامية لشيطنة كتائب عز الدين القسام، واتهام حماس بأنها داعش، واستدعوا كل
ما في جعبتهم من قصص قتل أطفال، بقطع رؤوسهم، أو حرقهم، في الأفران، فضلاً عن
روايات قتل النساء أو اغتصابهن، وقد تبين أن كل ذلك كان تلفيقاً، فاضطر حتى بايدن
على تكذيب تصريحات له، اعتمدت على تلك الأكاذيب.
ولم تمضِ خمسة أيام، إن لم يكن منذ اليومين الأولين، حتى تبين أن
الهجوم بالطيران استهدف المدنيين، لإنزال أقصى ما يمكن إنزاله، من قتل جماعي وجرحى
وهدم للبيوت. الأمر الذي تكشف عن أن الحرب المعلنة تتنكر للقانون الإنساني
والدولي، ولكل القوانين والأعراف العسكرية.
هذا، وقد حظبت حرب الإبادة للبشر، والتدمير للحجر، بداية، بأغلبية
الرأي العام لمستوطني الكيان، وبأغلبية الرأي العام بتأثير القيادات الغربية
ونفوذها الإعلامي. ولكن ما كاد الأسبوع الثالث يبدأ حتى أخذ يتبين للرأي العام
العالمي ولغالبية من دول العالم، بأنهم ليسوا أمام حرب كما عرفت الشعوب الحروب،
وإنما أمام قتل جماعي مستديم، ومتواصل بلا انقطاع، وذلك من خلال قصف على مدار
الأربع والعشرين ساعة، ويوماً بعد يوم، ومن دون أن تبدو له نهاية.
ومن هنا أخذت سمعة الكيان الصهيوني وقيادة بايدن، وصولاً إلى الحضارة
الغربية، تسوء يوماً بعد يوم. وتواصلت هذه "الحرب القذرة" المحرمة
دولياً، إلى حد ساءت فيه سمعة الكيان الصهيوني، إلى حدودها القصوى التي يصعب أن
تتغبر لاحقاً. وقد سمى البعض قطاع غزة، بمقبرة الأطفال في نظر الرأي العام العالمي.
إذا كان تشبيه الحرب بصبر ساعة، تشبهاً بمن يصرخ أولاً، فإن ما يجري من حرب بريّة، أصبح من المؤكد أن يصرخ العدو فيها أولاً. وهو ما أكدته معادلة المواجهة التي كانت في مصلحة المقاومة، من خلال قيادتها الفذة عسكرياً، ومقاوميها الاستثنائيين، شجاعة وذكاءً ومهارة
عندما تمضي هذه الفضيحة التي لا تحتمل لسمعة الكيان الصهيوني في نظر
الرأي العام العالمي، خصوصاً في أمريكا وأوروبا وحتى في أوساط واسعة من الشباب
اليهود، ومع ذلك تستمر قيادة الحرب بالمضيّ فيها، دون توقف، فهذا يعني أنها فقدت
صوابها، وافتقرت إلى الحد الأدنى من العقلانية. وراحت تهدد مستقبل الكيان الصهيوني.
هذا الحكم يتعزز أكثر فأكثر مع تجربة الحرب البريّة، والتي يفترض
بالقادة العسكريين أن يلتقطوا، منذ أسبوعها الأول، وبعد تحضير دام ثلاثة أسابيع،
بأنها فاشلة. وقد حملت من الخسائر في الضباط والجنود والآليات والدبابات، ما لا
تسمح الأكاديميات العسكرية، باستمراره كل تلك المدة التي زادت على الخمسة والستين
يوماً (الحرب 86 يوماً)، مع الإصرار على مواصلتها بغباء لا يسوّغه علم عسكري، ولا
تاريخ عسكري معاصر. مما يؤكد أن كل ما تعلمه الجنرالات من المعاهد العسكرية، ومن
كارل فون كلاوزفيتز أو أنتوني هنري جوميني وفوللر ليدل هارت، ومن تجاربهم هم
أنفسهم، قد طار أمام روح الانتقام والعناد المستند إلى الأهواء، والإصرار الذي لا
يشبه غير إصرار، المقامر على متابعة الخسارة التي تنتهي بالانتحار، أو في الشوارع
للتسوّل والتشرّد.
عندما تُراجع الخسائر اليومية في الحرب البريّة، ولا حاجة إلى جمعها
المهول، يعجب الانسان كيف يتم الاصرار على مواصلة حرب لم تحقق إنجازاً عسكرياً
واحداً، ولم تخفف مستوى الخسائر على مستوى الرأي العام.
هنا يُفهم أن يصر نتنياهو على مواصلة الحرب، لأن كل يوم في
استمرارها، يعفيه يوماً من السجن. وهو يدرك أن الألسنة اللاذعة من زملائه ستنهش
لحمه نهشاً، حالة سقوطه من رئاسة الوزراء.
ولكن كيف يفهم استمرار الجنرالات في حرب خاسرة عسكرياً وسياسياً
وسمعة. وهذا مخالف لكل ما تعلموه في تقدير الموقف، بعيداً من الرغبات والأمانيّ
والمصلحة الخاصة الأنانية. فالطموح المشروع عسكرياً هو طموح المنتصر، وليس عناد
المقامر الذي من الأخسرين.
وكلمة أخيرة لولا الحرص على وقف العدوان لوقف ما يتعرض له المدنيون
من تقتيل، والعمران من تدمير، لكان من الأفضل أن تستمر هذه الحرب، من أجل المزيد،
فالمزيد من خسائر الجيش الصهيوني، وصولاً إلى الحضيض والنهاية الأسوأ.
على أن هذا العناد الذي أيدّته القيادة الصهيونية، عدا نتنياهو، في
الاستمرار حتى الغرق في حرب خاسرة، وبمخالفة غير عقلانية للنتائج، أو بتحدٍ صارخ
لميزان قوى عالمي وإقليمي، وميدان عسكري لن يستطيع أن يستمر طويلاً بعد هذا اليوم.
لأن هذا لا يستطيع أن يحافظ على شبه إجماع، أو على غطاء أمريكي بلا حساب لتفاقم
الخسارة السياسية والإعلامية، والعزلة الدولية. فالتصدّع في موقف القادة الصهاينة،
هو الذي أصبح صارخاً على الأجندة، وأول ذلك كان إحجام وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف
غالانت، والوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، عن مشاركة نتنياهو مؤتمره الصحفي في
29/12/2023. مما يشكل بادرة لانهيار "مجلس الحرب".
إذا كان تشبيه الحرب بصبر ساعة، تشبهاً بمن يصرخ أولاً، فإن ما يجري
من حرب بريّة، أصبح من المؤكد أن يصرخ العدو فيها أولاً. وهو ما أكدته معادلة
المواجهة التي كانت في مصلحة المقاومة، من خلال قيادتها الفذة عسكرياً، ومقاوميها
الاستثنائيين، شجاعة وذكاءً ومهارة، فضلاً عن صبر الشعب العظيم، في تحمّل قسوة ما
تعرّض له، من مجازر فظيعة لا مثيل لها، جعلت منه نموذجاً في الإيمان والصبر
والاحتساب، وتحدي العدوان.