حقق كل من حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح نقلة هامة من
الناحية الفكرية والسياسية حينما عملا على ترسيخ مبدأ الفصل التنظيمي بين العمل
الدعوي والعمل السياسي، بغض النظر عن ما إذا كان هذا الفصل التنظيمي يستبطن أطروحة نظرية
في كيفية ضبط العلاقة بين الدين والسياسة باعتبارهما مجالين متمايزين ومختلفين، أم إنه إجراء تدبيري وظيفي أملته الظروف الاستثنائية التي عاشها الحزب في أعقاب
تفجيرات 16 أيار (مايو) التي عاشتها مدينة الدار البيضاء سنة 2003..
من المؤكد أن الحملة الإعلامية والسياسية التي تعرض لها حزب العدالة
والتنمية بعد أحداث 16 ماي، كان لها دور مهم في تسريع وتيرة المراجعات داخل الحزب،
لكن من المؤكد أيضا أن مستلزمات الاشتباك مع السياسات العمومية ومع القضايا
اليومية للمواطنين بعد تجربة ولاية تشريعية كاملة من العمل البرلماني ساهمت في
إنضاج شروط الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي وسهلت على "الحركة
الأم" اعتماد سياسة العمل التخصصي.
تفجيرات 16 أيار (مايو) 2003: استهداف عناصر القوة داخل حركة التوحيد
والإصلاح وحزب العدالة والتنمية..
مباشرة بعد التفجيرات العنيفة التي استهدفت بعض فنادق مدينة الدار
البيضاء ليلة 16 أيار (مايو) 2003، تعرض حزب العدالة والتنمية لضغوط كثيرة وصلت إلى درجة اتهامه بالمسؤولية
المعنوية عن هذه الأحداث المأساوية، وفي هذا السياق تم منع الحزب من المشاركة في
المسيرة الشعبية التي جرى تنظيمها في العاصمة الاقتصادية للمملكة للتنديد بالأعمال
الوحشية ليوم الجمعة الأسود، وشاركت فيها جميع الأحزاب السياسية والجمعيات
والنقابات، باستثناء حزب العدالة والتنمية، كما طالبت بعض الدوائر الحكومية بحل
الحزب في مرحلة أولى، قبل أن تطالب بتطهير صفوفه من بعض العناصر التي كانت ترى في
خطابها نزوعا نحو نوع من العنف اللفظي، مع الضغط على الحزب من أجل تقديم اعتذار
إلى الشعب
المغربي..
وبالموازاة مع هذا التأليب الإعلامي كان هناك ضغط سياسي مباشر على
الحزب من طرف وزارة الداخلية، التي بادرت إلى تنظيم اجتماع مع الأمانة العامة
للحزب بحضور رئيس حركة التوحيد والإصلاح أحمد الريسوني، أبلغ فيها كل من وزير
الداخلية آنذاك مصطفى الساهل وفؤاد عالي الهمة الوزير المنتدب في الداخلية آنذاك،
قيادة الحزب والحركة ملاحظات مؤسسات الدولة على
خطاب الحزب ومواقفه وسلوك بعض
قيادييه، وضرورة إجراء مجموعة من المراجعات تحت طائلة التهديد بحل الحزب ووقف
أنشطته، وقد نال حصة اللوم خلال هذا الاجتماع كل من أحمد الريسوني والمصطفى الرميد
رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب آنذاك.
استقالة أحمد الريسوني من رئاسة حركة التوحيد والإصلاح..
كان من النتائج المباشرة لهذا الضغط السياسي والإعلامي تقديم أحمد
الريسوني استقالته من رئاسة حركة التوحيد والإصلاح في يونيو 2003. وتعود خلفية هذه
الاستقالة إلى استجواب صحافي له قبل الأحداث الإرهابية لـ 16 أيار (مايو) 2003، بيومين،
نُشر في يومية "أوجوردوي لوماروك"، فخلقت الترجمة الفرنسية لحواره
زلزالا في الساحة السياسية والإعلامية، خصوصا، أن الحوار جاء بالتزامن مع حدث
إرهابي خطير.
أحمد الريسوني
جاء في الحوار المترجم باللغة الفرنسية، قول الريسوني: "أظن
أننا لسنا ملزمين بالتمسك بالأسلوب التقليدي لمؤسسة إمارة المؤمنين، ولهذا فإن
أمير المؤمنين يمكن أن يكون ملكا أو رئيس جمهورية أو حتى وزيرا أول، الشرط الوحيد
في كل هذا هو أن يسير البلاد حسب تعاليم الإسلام". وأضاف قائلا: "أصبح
غير مفيد تجميع السلطات كلها في يد رئيس الدولة، ولا بد من توسيع دائرة اتخاذ
القرار (...) تكوين الملك اليوم لا يخول له أن يصدر فتوى، فهذه الأخيرة تعود إلى
أمير المؤمنين وينبغي أن يفوضها. والمغرب ليس فيه حاليا مفتي دياره، وذلك فراغ صعب
يجب ملؤه".
وبعد صدور الحوار مترجما باللغة الفرنسية، أصدر الريسوني بلاغا يكذب
ما جاء فيه، مبررا ذلك بأن الحوار تم باللغة العربية وليس بالفرنسية، لكن مع توالي
الضغوطات الكبيرة، قرر الريسوني تقديم استقالته، التي أثارت جدلا كبيرا داخل
الحركة والحزب آنذاك، وقد جاء في بيان صادر عن المكتب التنفيذي للحركة أن
الاستقالة "جاءت على إثر التأويل غير الصحيح للتصريحات التي أدلى بها
الريسوني حول "إمارة المؤمنين في المغرب"، وذكر البيان أن تلك التصريحات
تعرضت "لعدة تأويلات لم يقصدها صاحبها، خاصة منها ما يتعلق بإمارة
المؤمنين".
أما بيان الاستقالة فجاء فيه: "بعد الحوار الذي أجرته إحدى
الصحف الناطقة بالفرنسية مع الدكتور الريسوني، وتعلق جزء منه بإمارة المؤمنين، تم
إخراجه بكيفية مشوهة.. ولم تعرضه الجريدة على صاحبه للمراجعة كما اتفق مع الصحافي
الذي طلب الحوار".
وأضاف البيان أنه "تقديرا لإمارة المؤمنين، وتحملا لمسؤولية
الخطأ الذي وقع في ذلك الحوار، وعدم التمكن من تصحيحه وفق ما هو مقصود، والآثار
السلبية التي ترتبت عنه، فإن الدكتور الريسوني قدم استقالته من رئاسة حركة التوحيد
والإصلاح"، وجاء في البيان أن "المكتب التنفيذي للحركة وافق على
الاستقالة، وخلفه في منصبه محمد الحمداوي" الذي تحمل مسؤولية رئاسة الحركة في
انتظار انعقاد جمعها العام لانتخاب رئيس جديد لها. وهكذا نجحت هذه الحملة
الإعلامية والسياسية في إحداث الوقيعة بين الحركة الإسلامية والقصر الملكي، بعدما
كانت العلاقة بينهما تتميز بالهدوء والاحترام، خصوصا وأن أحمد الريسوني كان أول
قيادي داخل الحركة الاسلامية المغربية يستقبل في القصر الملكي عندما ألقى درسا
دينيا عام 1999، أمام الملك محمد السادس ضمن سلسلة الدروس الحسنية التي تلقى عادة
كل شهر رمضان أمام الملك، وذلك تحت عنوان “مقاصد البعثة المحمدية".
استهداف العدالة والتنمية واستقالة مصطفى الرميد من رئاسة فريق الحزب بالبرلمان
كان من أهداف الحملة الإعلامية والسياسية التي انطلقت على خلفية
أحداث 16 ماي والتي سعت إلى تحميل الحزب والحركة الموالية له المسؤولية المعنوية
في خلق الأجواء التي أدت الى تفجيرات الدار البيضاء، استهداف مجموعة من عناصر
القوة داخل حزب العدالة والتنمية، والذي أدى برئيس فريقه بالبرلمان إلى تقديم
استقالته في أكتوبر من سنة 2003، بعدا إعادة انتخابه رئيسا، موضحا في تصريحات
للصحافة حينها "أن بعض الجهات هي من كانت وراء تقديم استقالته من رئاسة
الفريق، بعدما وصل الأمر إلى توجيه تهديدات مباشرة للحزب"، مضيفا "تحملت
مسؤوليتي، وقدمت استقالتي لتجنيب حزبي كل ما من شأنه أن يضر به". وهو الضغط
الذي تعرض له الحزب نفسه من أجل تقليص ترشيحاته بمناسبة الانتخابات البلدية التي
أجريت في شهر شتنبر من نفس السنة، حيث لم يسمح له بالترشيح إلا في نصف الدوائر
الانتخابية بالمدن الكبرى.. وبذلك تكون أحداث 16 ماي قد ساهمت في ترسيم مجموعة من
المراجعات والنقاشات التي كانت قد اختمرت داخل كل من الحزب والحركة، وحان وقت اعتمادها في وثائق رسمية..
مصطفى الرميد
مراجعات سياسية وفكرية ساهمت في الفصل بين الدعوي والسياسي..
اختار كل من حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح الفصل بين
الدعوي والسياسي، واعتماد ما سماه محمد الحمداوي الرئيس السابق لحركة التوحيد
والإصلاح "علاقة شراكة إستراتيجية بين هيئتين مستقلتين ضمن مشروع إصلاحي
واحد تتعدد مداخله، في إطار وحدة المشروع بدل وحدة التنظيم" وهو التصور الذي
جعل الحزب يركز على الشأن العام والسياسات العمومية، ودفع بالحركة إلى التركيز
على الدعوة والتربية والتكوين، والابتعاد عن العمل الحزبي السياسي اليومي.
وهكذا صادق مجلس شورى حركة التوحيد والإصلاح في تموز (يوليو) 2004
على ورقة حول "المشاركة السياسية والعلاقة بين الحركة والحزب" اعتبرت أن
"الحديث عن المشاركة السياسية لحركة التوحيد والإصلاح...لا يعني اشتغال
الحركة وهيئاتها بالعمل السياسي مباشرة، إذ ينبغي التمييز بين شمولية تصور الحركة
للإسلام، وبين صيغ ومجالات تنزيل هذا التصور في الواقع" كما اعتبرت هذه
الورقة أن"وظائف الحركة الأساسية تبقى هي الدعوة والتربية والتكوين، بينما
يبقى مجال العمل السياسي بالنسبة لأعضاء الحركة هو الحزب السياسي".
محمد الحمداوي
إن ترسيم هذا التحول سبقته عددا من الكتابات النظرية التي تؤسس له،
من أبرزها كتاب سعد الدين العثماني حول
"تصرفات الرسول بالإمامة" الذي صدر سنة 2000، والذي دافع فيه عن ضرورة
التمييز بين ما يعتبر دينا موحى به وبين ما يعتبر تصرفات دنيوية، وذلك من خلال
التمييز بين تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه نبًّيا مرسًلا، وتصرفاته
بوصفه قائًدا ورئيس دولة، فهو يأتمر بالوحي بمقتضى صفته الأولى، ويطلب الاستشارة
والرأي بمقتضى صفته الثانية، وهي أطروحة نظرية متماسكة وضع معالمها الأولى الإمام
القرافي وغيره، وأعاد تركيبها سعد الدين العثماني بما يسمح لحزب العدالة والتنمية
بالتمييز بين المجالين السياسي والدعوي، ومراجعة وثائقه المذهبية منذ المؤتمر
الخامس لسنة 2004 والتحول "من حزب سياسي إسلامي" يعنى بقضايا المرجعية
الإسلامية والهوية، وينخرط في معارك ذات طبيعة هوياتية صرفة إلى "حزب سياسي
مدني ذي مرجعية إسلامية، له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد
الديمقراطية، ويجيب عن الأسئلة المطروحة سياسيا لا دينيا"، ومع المؤتمر
الوطني السادس الذي انعقد سنة 2008 صادق الحزب على أطروحة نظرية تحت عنوان
"النضال الديموقراطي مدخلنا إلى الإصلاح".. ومن خلالها بدأ حزب العدالة
والتنمية يدافع عن علاقة التمييز لا الفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين
والدولة، ويرى أن (العلاقة الأوفق) بينهما "ليست الفصل المطلق بين المجالين
كما تذهب إلى ذلك بعض أنماط العلمانية الشاملة والمتطرفة، لكن في المقابل ليست
هي التماهي المطلق على اعتبار أن الممارسة السياسية هي ممارسة بشرية نسبية قابلة
للخطأ. فالدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة وروح دافعة، وقوة جامعة للأمة، لكن
الممارسة البشرية هي بطبيعتها ممارسة بشرية. ولذلك "نعتبر أن الإسلام يعارض
إضفاء طابع القداسة على الممارسة السياسية، ويرفض تبعا لذلك أي صورة من صور
نظرية الحكم الإلهي أو ما يعرف بالثيوقراطية".
هذه الرؤية ساهمت في التأسيس العملي للفصل بين مجال الدعوة ومجال
السياسة، وهو ما لاحظناه على مستوى العلاقة التنظيمية والمجالية بين حزب العدالة
والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح. وهو تطور يصّب في مصلحة النظام السياسي المغربي،
حيث يتمتع فيه الملك بالصفة الدينية (أمير المؤمنين) والصفة السياسية (الملك رئيس
الدولة) وهي مشروعية مزدوجة يرفض أن ينازعه فيها أي حزب سياسي..
فحتى وإن كانت منطلقات الممارسة السياسة للحزب تستند إلى المرجعية
الإسلامية فإن المواضيع التي يشتغل عليها تبقى مواضيع محكومة بطبيعة المجال الذي
تنتمي إليه وهو المجال السياسي المحكوم بالنسبية وبتنافسية البرامج والمشاريع
والتي ليست كلها مقتبسة من القرآن والسنة، وهو ما مكن الحزب من التموقع كحزب سياسي
وطني ومدني يناضل من أجل الإصلاح إلى جانب كافة القوى الديموقراطية في البلد.
ويمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية من الأحزاب السياسية ذات
المرجعية الإسلامية في العالم العربي التي نجحت في تطوير خطابها السياسي في اتجاه
التمييز بين طبيعة المجال السياسي والمجال الدعوي وفي تبني مفهوم الديموقراطية
بدون تحفظات، فقد انطلق في أطروحته السياسية من اعتبار الحزب أداة لتنظيم
المواطنين الذين يتقاسمون اختيارات سياسية وبرنامجية معينة، والوظيفة الأساسية له
هي تدبير الشأن العام سواء من خلال موقع التسيير أو من خلال موقع المعارضة، كما
أكد بعد استحضار مجمل تحولات الوضع الدولي، والوقوف على أهم التطورات الدالة التي
عرفها المغرب في السنوات القليلة الماضية ـ على أن الرهان في المرحلة المقبلة ينبغي
أن يكون على النضال الديمقراطي باعتباره مدخلا للإصلاح. وبالفعل فإن أدبيات الحزب
النظرية تشير إلى المسألة الديمقراطية وإلى ضرورة الإصلاح الديمقرطي، بالإضافة إلى
العديد من المقالات والدراسات والكتابات التي حاولت تأصيل هذا المفهوم في الوعي
السياسي للمناضلين..
وهو ما وفر أرضية نظرية ملائمة للخوض في المسألة الدستورية وإعداد
تصورات مفصلة حولها، ساهمت في تدقيقها لحظة الربيع العربي التي انطلقت في المغرب
على إيقاع احتجاجات شباب 20 فبراير.