الذاكرة السياسية

التأصيل الشرعي لأعظم ثورات التحرير المعاصرة في ذكراها السبعين (1 من 2)

إن حركتنا قد وضعت المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة.. ولذلك فهي موجهة فقط ضد الاستعمار الذي هو العدو الوحيد الأعمى.. فيسبوك
لم يعرف التاريخ -في عِلْمِنَا- ثورة ذات أبعاد عالمية وطابع إسلامي (تحرري، جهادي) غيَّر الكثير  من المفاهيم في العالم (مثل طوفان الأقصى في فلسطين حاليا)، وكان سببا في تحرير شعوب كثيرة، وتقليص رقعة مستدمرات  في  بعض القارات. مثل نتائج الثورة الجزائرية التي ضربت الرقم القياسي في التضحيات، وعدد الشهداء الذي أصبح عَلَما تعرف به الجزائر عالميا بين الدول، بأنها بلد المليون ونصف المليون شهيد.

فما هي علاقة هذه الثورة بالإسلام عقيدة وشريعة وتأصيلا لمشروعيتها بجميع المقاييس، كما يتبين من البيان التاريخي الذي انطلقت بموجبه في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، مثل يومنا هذا  بالدقيقة  والساعة قبل سبعين سنة  خلت.

وقبل أن نعرض البنود التي تهمنا من هذا البيان في موضوع التأصيل الشرعي لثورة الجهاد، يهمنا أن نذكر بصفتنا (وبكل تواضع) أحد الشهود الأحياء الذين عايشوا كل أحداث هذه الثورة من البداية إلى النهاية، أذكر أن أحد المجاهدين (وكان أستاذا للتاريخ) يدعى محمد الطاهر عزوي، وهو من قرية "أريس" بولاية مهد الثورة  بالأوراس، قال لنا بأن هؤلاء المحضِّرين للثورة بقيادة الشهيد مصطفى بن بوالعيد (وهو من أعيان قرية أريس ذاتها)، قد استفتوا الأزهر الشريف في مشروعية الجهاد في الجزائر (من الناحية الشرعية)، وتلقوا الرد بالإيجاب، وذلك قبل إعلان البيان التاريخي للإعلان بتفجير الثورة الجهادية الذي نذكر منه على الخصوص ما يلي:

"أمام هذه الوضعية التي يخشى أن يصبح علاجها مستحيلا، رأت مجموعة من الشباب المسؤولين المناضلين الواعين، التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة، أن الوقت قد حان لإخراج الحركة الوطنية من المأزق الذي أوقعها فيه صراع الأشخاص والتأثيرات لدفعها إلى المعركة الحقيقية الثورية، إلى جانب إخواننا المغاربة والتونسيين. وبهذا الصدد، فإننا نوضح بأننا مستقلون عن الطرفين اللذين يتنازعان السلطة.


                                  أحمد بن نعمان مجاهدا في ثورة التحرير الجزائرية

إذا كانت الثورة في مفهومها العام تعني التغيير الجذري والمفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بوسائل غالبا ما ترتبط بالعمل المسلح في أكثر الأحوال وغير المسلح في أحسن الأحوال، فإن ذلك يجعل الثورة الجزائرية هنا تتقاطع في الوسائل والأهداف مع مفهوم الجهاد في الإسلام.
إن حركتنا قد وضعت المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة؛ ولذلك فهي موجهة فقط ضد الاستعمار الذي هو العدو الوحيد الأعمى، (الذي رفض أمام وسائل الكفاح السلمية) أن يمنح أدنى حرية.

ونظن أن هذه أسباب كافية لجعل حركتنا التجديدية تظهر تحت اسم: جبهة التحرير الوطني. وهكذا نستخلص من جميع التنازلات المحتملة، ونتيح الفرصة لجميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية، أن تنضم إلى الكفاح التحريري دون أدنى اعتبار آخر.

ولكي نبين بوضوح هدفنا، فإننا نسطر فيما يلي الخطوط العريضة لبرنامجنا السياسي.

الهدف: الاستقلال الوطني بواسطة:

1  ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2  ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.

الأهداف الداخلية:

1 ـ التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي، والقضاء على جميع مخلفات الفساد التي كانت عاملا أساسيا في تخلفنا الحالي.
2  ـ تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري.

الأهداف الخارجية:

1 ـ تدويل القضية الجزائرية.
2 ـ تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي الإسلامي.

علاقة الثورة التحريرية بالجهاد الإسلامي:

إذا كانت الثورة في مفهومها العام تعني التغيير الجذري والمفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بوسائل غالبا ما ترتبط بالعمل المسلح في أكثر الأحوال وغير المسلح في أحسن الأحوال، فإن ذلك يجعل الثورة الجزائرية هنا تتقاطع في الوسائل والأهداف مع مفهوم الجهاد في الإسلام، الذي يتضمن في معانيه اللغوية بذل المستطاع من الجهد المادي والمعنوي لبلوغ الهدف المنشود، في إطار ما يتطلبه الشرع أو ما يسمح به على الأقل، ولذلك نجد في مشروعية الثورة من العلماء، من أوجب الخروج على أمراء الجور بالمطلق، أي الثورة عليهم وإعلان الجهاد ضدهم، ومنهم من أوجبوا الثورة فقط ضد أمراء الجور والفسق، إذا اجتمعت للثوار الإمكانات التي تضمن لهم النصر أو تجعله غالبا على الظن، وذلك بحجة أن الجور في اعتقادهم منكر، وتغيير المنكر فريضة ثابتة بالكتاب والسنة، شريطة ألا يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أشد منه، ولذلك وجدنا أغلب أئمة الإسلام قد أيدوا الثورات وبايعوا الثوار، وتحملوا في سبيل ذلك شتى أنواع الأذى في سبيل ما رأوه حقّا.

وتلتقي الثورة، كذلك مع الجهاد في جانب منه، وليس كله (كما سنفصل لاحقا)، وهو جانب القتل والقتال. إلا أن الإسلام ينفرد عن مفهوم الثورة في الفلسفات الأخرى، باعتبار القتل اضطرارا وليس اختيارا، واستثناء وليس قاعدة، وهو ما تجليه الآية الكريمة التي تقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ [ البقرة:216].ويؤكد هذا المعنى الجهادي لمفهوم القتل والقتال، بأنه اضطرار وليس اختيارا.

وهكذا، نجد أن الإسلام لم يمنع القتال عند اللزوم، ولم يوجبه إلا إحقاقا للحق ودفاعا عن النفس، وردّا للعدوان عن الدين  وعن الأوطان.

وهو ما نستخلصه من جميع الآيات القرآنية التي جاء فيها الإذن "بالجهاد القتالي" أو الأمر به أو التحريض عليه، حيث كان ذلك كله للدفاع ضد الذين يقاتلون المسلمين في دينهم أو يخرجونهم من ديارهم، كما توضحه الآية (40) من سورة الحج؛ حيث يحدد الله تعالى هؤلاء الذين يستحقون الدفاع عنهم بالقتال المكروه لهم، أو الذين يدافعون عنهم من المجاهدين، فيقول عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، ويسوغ ذلك الجهاد الدفاعي عن الدين بقوله الصريح في الآية ذاتها: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وتحريما للقتال العدواني حتى في الدين، بالنسبة للذين لم يبادئوا المسلمين بالعدوان عليهم، مما يجعلهم دائما في موقع المدافع فقط، وليس في موقع البادئ بالعدوان، فيقول في الآية (190) من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وهذا ما يشير إليه البيان الجهادي السابق بقوله (دون تمييز عرقي أو ديني).

الإسلام لم يمنع القتال عند اللزوم، ولم يوجبه إلا إحقاقا للحق ودفاعا عن النفس، وردّا للعدوان عن الدين وعن الأوطان.
وقد أجمع الفقهاء على أنه أيا كان حكم الجهاد القتالي في الإسلام، سواء أكان فرض كفاية، أم فرض عين أم تطوعا، فإن منزلته عند الله عالية جدا؛ إذ إن بواسطته تحمي الأمة دينها ودنياها، وتتحصن من أعدائها المتربصين بها في كل حين، مما يجعله دائما حصنها الحصين وركنها الركين إلى يوم الدين.

وأن مفهوم الجهاد كما جاء في القرآن والسنة، هو أوسع بكثير من مفهوم القتال الذي هو مجرد شعبة من شعب الجهاد، وضرورة لا يجوز اللجوء إليها إلا صدّا للعدوان عن عقيدة المسلمين أو أوطان دار الإسلام، كما هو منصوص عليه في الآيتين السابقتين من سورة "الحج" و"البقرة". وهو بذلك أوسع نطاقا وأبعد مدى من القتال. وقد قسمه الإمام ابن القيم إلى ثلاث عشرة مرتبة هي: جهاد النفس والشيطان، وجهاد الفساد والظلم والمنكر في المجتمع، وجهاد المنافقين، وهناك جهاد الدعوة والبيان، وجهاد الصبر والاحتمال، وجهاد الأعداء باستخدام السلاح المادي (السيف والمدفع والصاروخ)، وهكذا نرى أن الجهاد مختلف في اشتقاقه اللغوي وفي معناه عن القتال اختلافا بينا، فالقتال له علاقة بالقتل، أما الجهاد، فله علاقة ببذل الجهد في كل المجالات النفسية والجسدية المادية والمعنوية المذكورة آنفا بكل تفرعاتها. وهذا ما يسوٍّغ وجود وزارة المجاهدين في الجزائر، ما دون كل بلاد العالم ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا.

لأن الجهاد الحالي هو من نوع آخر غير الجهاد القتالي في أثناء  السنوات السبع لحرب التحرير، التي  انتهت منذ 62 سنة كما هو معلوم.

وقد ذكرت كلمة (القتال) ومشتقاتها في القرآن الكريم حوالي سبع وستين مرة. ونستطيع أن نقول؛ بأنه إذا كان كل قتال جهادا (إذا توفرت فيه النية المشروعة)، فليس كل جهاد قتالا؛ لأن القتال ما هو إلا أحد أوجه الجهاد كما أسلفنا. ولا عبرة للقتال شرعا إلا إذا كان في سبيل الله، وهو قتال المؤمنين، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله الصريح: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ [ النساء: 76].

وكما جاء في الحديث النبوي الشريف المتفق عليه: "فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله". وإذا فرغ القتال من هذه الأهداف وتلك الدوافع، فإنه لم يعد من الجهاد في شيء.  والدليل على أن معنى الجهاد أوسع من القتال، نقرؤه في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان:52] (والمقصود بكلمة "بِهِ" هنا في الآية، هو القرآن الكريم بكل تأكيد). وهو ما يعني مجاهدة المسلم لنفسه ولشيطانه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق عند السلطان الجائر، كما يشمل أيضا القتال في سبيل الله، ويشمل عمل القلب بالنية والعزم، وعمل اللسان بالدعوة والبيان، وعمل العقل بالرأي والتدبير، وعمل البدن بالقتال، ويشمل بذل المسلم جهده ووسعه في مقاومة الشر ومطاردة الباطل، بدءا بجهاد الشر داخل نفسه (الأمارة بالسّوء)، وتثنية بمقاومة الشر داخل المجتمع من حوله، وانتهاء بمطاردة الشر حيثما كان، بقدر طاقته.

مفهوم الجهاد كما جاء في القرآن والسنة، هو أوسع بكثير من مفهوم القتال الذي هو مجرد شعبة من شعب الجهاد، وضرورة لا يجوز اللجوء إليها إلا صدّا للعدوان عن عقيدة المسلمين، أو أوطان دار الإسلام.
ولعل هذا التعريف هو أقرب إلى القبول في اعتقادنا، لشموله أكثر أنواع الجهاد التي جاء بها الكتاب والسنة، كما أنه لم يحدّده بقتال الكفار، ليشمل قتال كل من تمرّد على شعيرة ظاهرة متواترة من شعائر الإسلام معلومة من الدين بالضرورة، وهو ما كان مطبقا في جهاد الجزائر، كما عشناه بالنسبة لتطبيق الشريعة الإسلامية في كل سنوات الثورة.

أما الحرب التي يختلط معناها مع الجهاد أحيانا، فهي تختلف عن الجهاد بقدر ما تلتقي مع القتال، في كونها تعني استخدام السلاح والقوة المادية من فئة ضد أخرى، قد تكون هذه الفئة قبيلة ضد قبيلة، أو أكثر، أو مجموعة قبائل ضد مجموعة أخرى، أو دولة ضد دولة أو أكثر، أو مجموعة دول ضد أخرى.

ويختلف مفهوم (الجهاد) عن مفهوم (الحرب)، في كون الجهاد ذا مفهوم ديني، يختلف من حيث أهدافه ودوافعه، ومن حيث أخلاقياته وضوابطه، عن مفهوم (الحرب) التي هي ذات طابع دنيوي، وجدت في الجاهلية، كما وجدت في الإسلام، ووجدت في شتى الأمم، وشتى العصور. وكثيرا ما يكون الهدف من الحرب الهيمنة على الآخرين، أو قمعهم وإذلالهم، أو الاستيلاء على ثرواتهم، أو غير ذلك، في حين أن الجهاد لا يقبل شرعا إلا إذا قصد به أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي الحق والعدل، وتحقيق الكرامة الإنسانية والأمن والحرية للبشرية. ومن ثمة، فلا تكون الحرب بمعنى الجهاد إلا إذا وصفت بأنها (إسلامية)، كما يصفها أعداء الإسلام بأنها حرب (صليبية) وينعتونها دائما بالمقدسة.

وإن الجهاد بمعنى القتال يختلف من حيث الهدف والنية باختلاف نوعي الجهاد، وهما "جهاد الدفع" و"جهاد الطلب"، وهذا النوع الأول من الجهاد الإسلامي "القتالي"، هو الذي ينطبق شرعا على جهاد الجزائر الذي يقضي بدفع العدوان إذا وقع على أي بلد من دار الإسلام، وهو الذي يعدّه الفقهاء فرض عين على أهل البلد المغزو. وإن هذا النوع من الجهاد القتالي هو مقاومة العدو بالثورة عليه، باستعمال كل الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها القوة المادية، أي قوة السلاح الناري بكل أنواعه التي بدأ بها غزوه لأقطار أمتنا مشرقا ومغربا، منذ عقود.

وهذا النوع من الجهاد لا نزاع فيه بين الفقهاء، ولا خلاف عليه. فقد اتفقت عليه كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، بما لا يستطيع أحد أن يرتاب في مشروعيته القانونية والشرعية الإسلامية، ونؤكد ذلك هنا للرد على الدول الغازية المعتدية على أوطان المسلمين، التي كانت وما تزال تخلط بين المفاهيم بطريقة سافرة ومتعمدة، حيث تسمي المجاهدين الجزائريين سابقا والفلسطينيين حاليا "بالإرهابيين" و"المخربيين"، مثلما نرى حتى الآن في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وفي كثير من دوائر الفكر والسياسة والثقافة.

والأغرب من ذلك، أن هذا الخلط قد ساهم في نشره (بكل غباء وربما تواطؤ أحيانا)، حتى إعلام بعض الدول الإسلامية، سواء بتفادي ذكر عبارة الجهاد ذاته (كلفظة عربية فصيحة) ذات دلالة واضحة وصريحة، أو باعتبار الجهاد إرهابا وقتالا، دون قصد شرعي مشروط أو محدد كما سبق تفصيله آنفا، ومن ذلك مثلا، أن منظمة المؤتمر الإسلامي سابقا (التضامن الإسلامي حاليا)، ذهبت إلى حدّ حذف هذا المصطلح "الجهاد" من البيان الختامي لمؤتمرها المنعقد في السنغال سنة 1991. وكذلك تغيير الدولة الليبية (سنة 2010) لاسم أهم مركز دراسات (جهاد الليبيين) بحذف عبارة "الجهاد" منه لنفس الأسباب، ولم ينقص إلا أن يعمد بعضهم إلى الأمر بحذف لفظ "الجهاد" حيثما ورد في المناهج المدرسية، أو تفادي ذكرها حتى في الآيات القرآنية التي تتضمنها، متعمدين الخلط في الترجمة، أيضا عن قصد، بين المفهوم الإسلامي للجهاد (الذي لا يعدّ القتال إلّا أحد فروعه الضرورية القصوى كما أسلفنا)، وبين الحرب المقدسة في اللاهوت الكنسي الأوروبي. وقد سار بعض الإعلام العربي الرسمي كذلك في هذا المنحى، حتى ظن الكثير من الجهال، أن كلّ قتال في الإسلام هو جهاد، وأن كل إرهاب أو عنف مسلح في البلدان الإسلامية (حتى ضد بعض المسلمين أنفسهم)، هو نوع من الجهاد المطلوب والمرغوب الذي تشد إليه الرحال في الجنوب مع أو ضد بعض بلدان الشمال.

وإن أول أهداف القتال والحرب في الإسلام، هو دفع الاعتداء وردّّه بالقوة، سواء كان هذا الاعتداء واقعا على الدين، أم على الوطن والأرض، أو على المال والعرض.

فأما الاعتداء على الدين، فيتمثل في فتنة المسلمين في دينهم، واضطهادهم من أجل عقيدتهم، أو الوقوف في وجه الدعوة ومنعها، والصدِّ عنها، والتعرُّض لدعاتها بالأذى إلى حدِّ القتل. ومثل ذلك: الاعتداء على أرض الإسلام، ووطن المسلمين، وما يتضمَّن ذلك من عدوان على دماء الناس وأموالهم وممتلكاتهم وحرماتهم ومقدساتهم.

والإسلام يعدّ بلاد المسلمين كلَّها وطنا واحدا، أو دارا واحدة، (هي دار الإسلام)، فالاعتداء على جزء منها، يعدّ اعتداء على جميعها، ومسؤولية الدفاع عنها تقع على عاتق الأمة كلها. وكذلك الاعتداء على حرمات الأفراد في أنفسهم، أو في أموالهم وممتلكاتهم، أو في أهليهم ومن هم في ذمتهم، فيقول عزّ وجلّ في ذلك: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِله فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِـمِينَ. الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَام وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 190 ـ 194].

وقد قرَّرت هذه الآيات جملة أحكام نذكر منها على الخصوص:

1 ـ  الأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين، أي يبدؤونهم بالقتال، على أن يكون قتالهم في سبيل الله، أي لتكون كلمة الله هي العليا.

2 ـ النهي عن الاعتداء بصفة مطلقة، وتعليل ذلك بأن الله لا يحب المعتدين، وهذا دليل على أنه حكم مستقر محكم غير قابل للنسخ، كمـا أنّ فيه تنفيرا للمسلم منه، فإن كل مسلم حريص على أن يكون ممَّن يحبُّهم الله، لا ممَّن لا يحبُّهم الله.

3 ـ  تشريع معاملة هؤلاء المعتدين على المسلمين بمثل أعمالهم من القتل والإخراج.

4 ـ تقرير أن الفتنة في الدين أشدُّ من القتل؛ لأن القتل اعتداء على الكيان المادي للإنسان: (الجسد)، والفتنة اعتداء على الكيان المعنوي للإنسان: (الروح والعقل والإرادة).

5 ـ تقرير غاية القتال، وهو: اتقاء الفتنة، وتوطيد حرية الإيمان للناس، وكسر شوكة المتجبِّرين في الأرض الذين يفتنون الناس في دينهم. وبهذا يكون الدين لله، يدخله من شاء بإرادته، لا يكره عليه، ولا يصدُّ عنه من أحد.

ويجدر التنبيه هنا إلى شرعية مقابلة العدوان بمثله، وقد سمَّاه القرآن اعتداء، من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فالردُّ على الاعتداء في الحقيقة ليس اعتداء. ومن أهداف (الجهاد القتالي) التي نصَّ عليها القرآن: منع الفتنة في الدين، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم في آيتين من كتاب الله، إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِـمينَ﴾ [ البقرة:193]. والثانية في سورة الأنفال في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [ الأنفال:39].

فقد حدَّدت الآيتان كلتاهما غاية القتال بأنها: منع الفتنة: "حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ"، وهذا النفي يشمل كلَّ فتنة يمكن أن تتصوَّر هنا: مثل فتنة الإنسان في نفسه، أو في أهله، أو فيمن يحبُّ من الناس. وإذا كانت الفتنة أشد من القتل، فإن أخطر هذه الفتن وأشدها على المرء هي (الفتنة في الدين)، وسلب حرية اختيار الإنسان لعقيدته، فإن أهل القوة والجبروت يريدون أن يتحكموا في ضمائر الناس، فيمنعوهم حتى من حق الإيمان بما اقتنعت به عقولهم، أو اطمأنت إليه قلوبهم، كما قال فرعون من قديم منكرا على السحرة إيمانهم برب موسى وهارون، حيث قال لهم بكل استنكار واستغراب: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه:71، الشعراء:49].

وقد كانت الفتنة ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ و﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾؛ لأن القتل جناية على (جسم) الإنسان وحياته المادية، أما الفتنة، فهي جناية على (ضمير) الإنسان، وحياته الروحية والفكرية. والجناية الثانية أعظم بلا ريب من الجناية الأولى.

كما أن من أهداف الجهاد القتالي في الإسلام أيضا، إنقاذ المستضعفين من خلق الله،من ظلم الجبَّارين، وتسلُّط المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ، الذين يستخفون بحرمات الضعفاء، ويسومونهم سوء العذاب، ويهدرون إنسانيتهم؛ لأن في أيديهم القوة المادية التي تمنع الأيدي أن تدافع، وتخرس الألسنة أن تتكلم، وتكره الناس على أن يسكتوا عن الحقِّ أو تجبرهم على أن ينطقوا بالباطل. فعلى المسلمين واجب النَّجدة لتحرير هؤلاء المستضعفين، وإغاثة هؤلاء الملهوفين، وإنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون إلا الدعاء إلى الله تعالى أن ينجيهم من عدوهم، ويهيئ لهم من ينصرهم ويأخذ بأيديهم. وهذا الشعور بالواجب الديني والقومي، هو الذي دفع بالعديد من الأشقاء العرب والمسلمين إلى الوقوف مع الشعب الجزائري في جهاده لنصرة دينه ووطنه.

وفي أمر هؤلاء المؤازرين من أبناء الأمة، يقول الله تعالى: ﴿فليُقاتِلْ في سَبيل اللّه الّذينَ يَشْرونَ الحياةَ الدُّنيا بالآخرةِ ومَنْ يُقاتِلْ في سَبيل اللّه فَيُقْتَل أو يَغْلِبْ فسوف نُؤتيه أجْرًا عَظيمًا. وما لكم لا تُقاتِلون في سَبيل اللّه والمُسْتَضعَفينَ من الرّجال والنّساء والوِلْدان الّذين يقولون رَبَّنا أخْرِجْنا منْ هذه القريةِ الظّالِمِ أهْلُها واجْعَلْ لنا مِن لَدُنْكَ وَلِيًّا واجْعَلْ لنا من لَدُنْكَ نَصيرًا﴾ [ النساء: 74-75]. فلننظر إلى هذا الأسلوب التحريضي البليغ الذي يستثير الهمم، ويحرك العزائم، ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾؟ فجعل القتال في سبيل المستضعفين قرين القتال في سبيل الله، إذ عطفه عليه بالواو بلا فاصل، بل هو عند التأمُّل جزء من القتال في سبيل الله؛ لأن القتال إنما يكون في سبيل الله إذا كانت الغاية منه هي أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي كلمة الحقِّ الذي يواجه الباطل، والعدل الذي يقاوم الظلم. وإنقاذ المستضعفين إنما هو لإقامة عدل الله في الأرض. ولهذا، قالت الآية التالية لهذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [ النساء:76]، فقرَّرت الآية أن شأن الذين آمنوا أن يكون قتالهم في سبيل الله، هكذا بإطلاق وتعميم، وإن كان من أجل المستضعفين، فهو أيضا في سبيل الله، بخلاف الذين كفروا، فإن لهم غاية غير غاية المؤمنين، وهي أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت. وهو كلُّ ما يعظم ويعبد ويطاع طاعة مطلقة من دون الله، وهو مصدر كل شرِّ وطغيان.

ولهذا، بعث الله رسله لتحرير الأمم من عبادة الطاغوت أيا كان اسمه ونوعه ومكانه وزمانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [ النحل:36]. والظاهر أن المسلمين مدعوون لإغاثة الملهوفين، وإنقاذ المستضعفين في الأرض من خلق الله، وإن لم يكونوا مسلمين؛ لأن رفع الظلم والأذى عن جميع الناس مطلوب من المسلم إذا كان قادرا عليه (ما لم يكونوا محاربين للمسلمين)، بل المسلم مطلوب منه أن يرفع الأذى عن الحيوان الأعجم إذا قدر عليه، سواء كان هذا الأذى ناشئا عن ظلم إنسان له، أو ناشئا عن أسباب طبيعية أخرى، كأن يصيبه العطش أو غيره من ألوان الأذى.

ولا يسمى الجهاد جهادا حقيقيا إلا إذا قصد به وجه الله، وأُريدَ به إعلاء كلمته، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله، فإذا أريد به شيء دون ذلك من حظوظ الدنيا، فإنه لا يسمى جهادا بناء على كل ما تقدم. وعن أبي موسى قال: "جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: "الرّجل يقاتل للمغنم (لأجل الغنيمة)، والرّجل يقاتل للذّكر (ليذكر بين الناس)، والرّجل يقاتل ليرى مكانه (يشتهر بالشجاعة)، فمن في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" رواه البخاري ومسلم.

وإن النية هنا هي روح العمل، فإذا تجرد العمل منها، كان عملا ميتا، لا وزن له عند الله، وإنّ الإخلاص هو الذي يعطي الأعمال قيمتها الحقيقية، ومن ثم فإن المرء قد يبلغ بالإخلاص درجة الشهداء ولو لم يستشهد، وفي ذلك يقول النبي ﷺ: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" رواه مسلم. وإن هذه الصفات والشروط الإيمانية والإخلاصية كلها، كانت متوفرة في معظم المجاهدين الجزائريين الذين نعرفهم من الشهداء، ومن الذين ما يزالون على قيد الحياة منتظرين دون تبديل أو تحويل.