كيف يمكن فهم التعثر الكبير الذي شهدته عملية تشكيل الحكومة وما هي
الخلفيات الحقيقية وراء إعفاء عبد الإله بنكيران وتعيين شخصية ثانية من نفس الحزب؟
وكيف تعامل حزب العدالة والتنمية في هذه المحطة المهمة في
تاريخه السياسي، بل
والغير المسبوقة في التاريخ السياسي والدستوري
المغربي؟
في هذه المقالة نحاول تسليط الضوء على هذه المحطة المفصلية ورصد
مختلف التفاعلات التي كان لها تأثير كبير على مكانة حزب العدالة والتنمية وعلى
التوازنات السياسية التي كانت قائمة بعد دينامية الربيع العربي.
كيف تفاعلت أعلى سلطة في البلاد مع تعثر تشكيل الحكومة؟
انطلاقا من مضامين بيان الديوان الملكي الذي صدر يوم 15 مارس 2017
نستشف بعض عناصر الفهم التي تعبر عن نظرة المؤسسة الملكية للموضوع.
في أول فقرة من بلاغ الديوان الملكي، تذكير بالحرص الملكي على تعيين
عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة مباشرة بعد الانتخابات، وقد جاءت العبارة واضحة
على الشكل التالي: "لقد سبق لجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، أن بادر
بالإسراع، بعد 48 ساعة من الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر
2016، بتعيين السيد عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة"، فعل المبادرة وفعل
السرعة هما بمثابة تذكير باحترام المؤسسة الملكية للمنهجية الديموقراطية وحرصها
على تكريس العرف الدستوري القاضي بتعيين رئيس الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات
رئيسا للحكومة، وليس الاكتفاء بتعيين شخصية من الحزب الفائز بالانتخابات، وهي
محاولة واضحة لاستبعاد أي تفسير سياسي بأن هناك إرادة معينة تستهدف التخلص من عبد
الإله بنكيران كشخص، ولو كانت هذه الإرادة موجودة لتم منذ اليوم الأول تعيين شخصية
أخرى من حزب العدالة والتنمية كما يسمح بذلك الدستور الذي لم يلزم الملك صراحة
بتعيين رئيس الحزب الأول في منصب رئيس الحكومة.
إن المشاورات التي خاضها رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران من أجل تشكيل الحكومة وبناء أغلبية برلمانية، اصطدمت بعراقيل حقيقية من طرف معظم الأحزاب السياسية
ومما يؤكد هذا التفسير أن بلاغ الديوان الملكي حاول أن يحمل مسؤولية
التأخر الكبير في تشكيل الحكومة لرئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران، وفي هذا
السياق ذكر البلاغ بأن "جلالته سبق أن حث رئيس الحكومة المعين، عدة مرات، على
تسريع تكوين الحكومة الجديدة"، واستطرد بيان الديوان الملكي ليذكر بأن "
جلالة الملك بعد عودته إلى أرض الوطن بعد الجولة التي قادته إلى عدد من الدول
الإفريقية الشقيقة، أخذ علما بأن المشاورات التي قام بها السيد رئيس الحكومة
المعين، لمدة تجاوزت الخمسة أشهر، لم تسفر إلى حد اليوم، عن تشكيل أغلبية حكومية،
إضافة إلى انعدام مؤشرات توحي بقرب تشكيلها" وبناء عليه "وبمقتضى
الصلاحيات الدستورية لجلالة الملك، بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير
المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، وحرصا من جلالته على
تجاوز وضعية الجمود الحالية، فقد قرر، أعزه الله، أن يعين كرئيس حكومة جديد، شخصية
سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية".
وأضاف البيان بأن "جلالة الملك فضل أن يتخذ هذا القرار السامي،
من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور، تجسيدا لإرادته
الصادقة وحرصه الدائم على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها
بلادنا في هذا المجال".
والخلاصة، أن بلاغ الديوان الملكي حاول أن يبلغ ست رسائل سياسية بشكل
مباشر:
أولا، الحرص الملكي على احترام الدستور وفق تأويل ديموقراطي إيجابي
وتمثل ذلك في تعيين عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة وتكليفه بتشكيلها.
ثانيا، الحث الملكي لرئيس الحكومة المعين بضرورة تسريع تشكيل
الحكومة.
ثالثا، مسؤولية رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وراء تعثر تشكيل
الحكومة بعد مرور أزيد من خمسة أشهر على تعيينه، وانعدام مؤشرات توحي بتشكيلها في
القريب العاجل.
رابعا، المسؤولية الدستورية للملك رئيس الدولة بصفته الساهر على
احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن
والمواطنين، التي تقتضي التدخل من أجل تجاوز وضعية الجمود الحالية.
خامسا، اتخاذ قرار بتعيين رئيس حكومة جديد، وهو
شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية انسجاما مع روح الدستور، وهو ما يعني
ضمنيا إعفاء عبد الإله بنكيران. وقد تجنب بلاغ الديوان الملكي استخدام مصطلح
الإعفاء لأنه ليس له ما يسنده من الناحية الدستورية، ولذلك كانت تقنية تعيين شخصية
من نفس الحزب وحلوله محل رئيس الحكومة المكلف هي الآلية الممكنة لتجنب الإحراج
الدستوري الذي لا يفسح المجال لإقالة رئيس الحكومة.
سادسا، الإشارة إلى اختيارات أخرى متاحة يمنحها نص وروح الدستور
للملك، وهي اختيارات لم يتم الكشف عنها لإبراز أن أفضل هذه الخيارات هي الحفاظ على
المبدأ الدستوري القاضي بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول المتصدر لنتائج
الانتخابات، واستبعاد خيارات أخرى ممكنة، وهي في هذه الحالة ـ في نظرنا ـ اللجوء
لإعادة الانتخابات، أما ما تم ترويجه من إمكانية تعيين شخصية من الحزب الحاصل على
الرتبة الثانية في الانتخابات، فهو خيار مستبعد، سياسيا ودستوريا، كما سنوضح في
المقال المقبل..
كانت هذه هي الرسائل الأساسية لبلاغ الديوان الملكي، لتجاوز تعثر
تشكيل الحكومة لمدة تزيد عن خمسة أشهر بعدما استعصى على عبد الإله بنكيران توفير
أغلبية برلمانية مساندة للحكومة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل هذه الاعتبارات كافية لفهم تعثر تشكيل
الحكومة أم إن هناك اعتبارات أخرى كانت تقف وراء ذلك؟ وكيف تفاعلت قيادة حزب
العدالة والتنمية مع بلاغ الديوان الملكي في هذه اللحظات السياسية الحاسمة؟
محاولة لفهم الخلفيات السياسية التي كانت وراء ما سمي
بـ"البلوكاج" الحكومي..
بغض النظر عن السبب المعلن في بلاغ الديوان الملكي والمتمثل في كون
"المشاورات التي قام بها السيد رئيس الحكومة المعين، لمدة تجاوزت الخمسة
أشهر، لم تسفر عن تشكيل أغلبية حكومية، إضافة إلى انعدام مؤشرات توحي بقرب
تشكيلها" فإن هناك بعض الاعتبارات الأخرى التي ينبغي استحضارها في التحليل،
وهي الظروف السياسية التي طبعت تلك المرحلة والتي تسمح بفهم الخلفيات السياسية لما
سمي ب"البلوكاج الحكومي".
أولا، قبل انتخابات السابع من أكتوبر 2016، كانت القوانين الداخلية
لحزب العدالة والتنمية تقضي بتنظيم المؤتمر الوطني العادي سنة 2016، ونظرا لتزامن
هذا الاستحقاق التنظيمي الداخلي مع سنة انتخابية، فقد قرر حزب العدالة والتنمية
تأجيل مؤتمره الوطني لمدة سنة، وهو ما يعني تجديد الثقة في عبد الإله بنكيران
لرئاسة الحزب لمدة سنة إضافية، والرهان عليه كمرشح لرئاسة الحكومة للمرة الثانية
إذا حصل الحزب على الرتبة الأولى في الانتخابات، خصوصا وأن الحزب حقق نتائج مبهرة
في الانتخابات البلدية التي أجريت يوم 4 نونبر 2015 ونجح في ترؤس المجالس الجماعية
للمدن الكبرى في المغرب (الدار البيضاء، الرباط، سلا، فاس، مراكش، أكادير ، طنجة
وغيرها..) وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الحياة السياسية المغربية المعاصرة منذ
الاستقلال إلى اليوم، لم يسبق أن سجلت تولي حزب سياسي لرئاسة الحكومة مرتين
متتاليتين..
ثانيا، هذا الاختيار كان نابعا من إحساس الحزب بأهمية الدور التواصلي
الذي كان يقوم به عبد الإله بنكيران، والذي طبع بأسلوبه الحياة السياسية المغربية
خلال هذه المرحلة ونجح في إثارة الاهتمام بالسياسة لدى شرائح واسعة من المغاربة،
ورسم لديها انتظارات وآمال عريضة في إمكانية الإصلاح، وهو ما ساهم في الرفع من
شعبية الحزب وأزعج خصوم العدالة والتنمية ورفع من منسوب الرغبة لديهم في إضعافه
وتحطيم عناصر قوته.
ثالثا، يبدو بأن شعبية عبد الإله بنكيران أصبحت مزعجة للكثيرين،
الذين باتوا يعقدون مقارنات كيدية، حول نسبة المشاهدات التي أصبحت تحظى بها جلسة
المساءلة الشهرية لرئيس الحكومة، والتي باتت تستقطب جمهورا جديدا لم يكن مغرما
بالخطاب السياسي، وأصبحت مناسبة للمتابعة وحتى "للفرجة" السياسية في
المقاهي ومشاهدة كيف يقوم عبد الإله بنكيران بالتنكيل بمعارضيه وتسفيه آرائهم
ومواقفهم.
بغض النظر عن السبب المعلن في بلاغ الديوان الملكي والمتمثل في كون "المشاورات التي قام بها السيد رئيس الحكومة المعين، لمدة تجاوزت الخمسة أشهر، لم تسفر عن تشكيل أغلبية حكومية، إضافة إلى انعدام مؤشرات توحي بقرب تشكيلها" فإن هناك بعض الاعتبارات الأخرى التي ينبغي استحضارها في التحليل، وهي الظروف السياسية التي طبعت تلك المرحلة والتي تسمح بفهم الخلفيات السياسية لما سمي ب"البلوكاج الحكومي".
وهنا ينبغي الإقرار بأن الخطاب السياسي لعبد الإله بنكيران كثيرا مع
تسبب في خلق أزمات معينة مع القصر سرعان ما يتم احتواؤها، إما ببيانات مؤسساتية،
أو بتصريحات تصحيحية، لكن ما ينبغي التوقف عنده، هو ما كشف عنه مؤخرا مصطفى الرميد
عضو الأمانة العامة آنذاك، ووزير العدل والحريات في حكومة بنكيران ووزير الدولة في
حكومة سعد الدين العثماني، في حوار صحافي من أن الاستقبال الملكي لتعيين عبد الإله
بنكيران يوم 10 أكتوبر 2016 رئيسا للحكومة، كان متبوعا في نفس اليوم باستقبال غير
معلن لعبد الإله بنكيران مرفوقا بمصطفى الرميد. هذا اللقاء الذي كانت بمثابة جلسة
محاسبة وتأنيب لعبد الإله بنكيران وتبليغه انزعاج الملك من مجموعة من التصريحات
التي تضمنتها خطاباته أو خطابات بعض القياديين في الحزب، وهو ما كان ينبغي أن يفهم
منه أن مهمة بنكيران لن تكون سهلة.
رابعا، خاض حزب العدالة والتنمية حملة انتخابية قوية في مواجهة حزب
الأصالة والمعاصرة، وهو حزب تأسس من طرف السيد فؤاد عالي الهمة الذي كان يشغل
آنذاك منصب وزير منتدب في الداخلية ومعروف بقربه الكبير من الملك، وسبق له أن أعلن
بشكل مباشر أن مهمته تكمن في مواجهة الإسلاميين...،ورغم ابتعاده عن الحزب في أعقاب
احتجاجات 20 فبراير والتحاقه بالديوان الملكي كمستشار خاص للملك، فقد بقي حزب
الأصالة والمعاصرة في نظر العديد من المراقبين يتمتع بدعم خاص تمثل في حجم الأعيان
الملتحقين به وفي حجم الإمكانيات المادية التي توفرت له في ظرف وجيز وفي الدعم
الواضح الذي كان يتلقاه من طرف السلطات المحلية في الكثير من المحطات، ولذلك فإن
نجاح حزب العدالة والتنمية في إلحاق الهزيمة الانتخابية به، وتحقيقه للرتبة الأولى
في الانتخابات التشريعية للمرة الثانية بعد ترؤسه للحكومة لولاية كاملة، اعتبر
بمثابة تحطيم لقواعد الضبط الانتخابي الموجودة، وإشارة تحدي لكل من راهنوا على حزب
الأصالة والمعاصرة كبديل لحزب العدالة والتنمية.
خامسا، إن المشاورات التي خاضها رئيس الحكومة
المعين عبد الإله بنكيران من أجل تشكيل الحكومة وبناء أغلبية برلمانية، اصطدمت
بعراقيل حقيقية من طرف معظم الأحزاب السياسية، فباستثناء حزب التقدم والاشتراكية
وحزب الاستقلال اللذين عبرا عن استعدادهما للمشاركة في الحكومة، فإن الأحزاب
الأخرى لم تعبر عن إرادة حقيقية لتيسير مهمة رئيس الحكومة، وسيزداد الوضع تعقيدا
حينما أدلى حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال بتصريحات مثيرة حول مورتانيا،
وهو ما أثار استياء الحكومة الموريتانية وأثار استياء السلطات المغربية، مما جعل
مشاركته في الحكومة غير مرغوب فيها، وهو ما عبر عنه بشكل صريح عزيز أخنوش الرئيس
المنتخب حديثا آنذاك لحزب التجمع الوطني للأحرار حينما ربط مشاركته في الحكومة
بعدم مشاركة حزب الاستقلال كما اشترط عدم تضمين "الدعم الاجتماعي المباشر
للمواطنين" في البرنامج الحكومي..
سادسا، إن تلكؤ رؤساء الأحزاب السياسية وعلى رأسها عزيز أخنوش في
التجاوب الإيجابي مع مشاورات رئيس الحكومة بعد مرور ثلاثة أشهر، دفعت عبد الإله
بنكيران إلى إصدار بيان يعلن فيه عن انتهاء المفاوضات مع عزيز أخنوش ومع امحند
العنصر الأمين لحزب الحركة الشعبية، وذلك بعد إصدارهما لبيان مشترك إلى جانب حزبين
آخرين هما حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاتحاد الدستوري، أعلنوا
فيه حرصهم على المشاركة مجتمعين في الحكومة المزمع تشكيلها، رغم أن رئيس الحكومة
المكلف أعلن رغبته في الاكتفاء بمشاركة أحزاب التحالف الحكومي السابق، وهي العدالة
والتنمية والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية.
وقد كشف بنكيران في بيانه المقتضب، أن "المنطق يقتضي أن يكون
لكل سؤال جوابا، وبما أن السؤال الذي وجهتُه للسيد عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع
الوطني للأحرار يوم الأربعاء 4 يناير 2017 حول رغبته من عدمها في المشاركة في
الحكومة التي عينني جلالة الملك يوم الإثنين 10 أكتوبر 2016 رئيسا لها وكلفني
بتشكيلها" وتابع بالقول: "وهو السؤال الذي وعدني بالإجابة عنه بعد
يومين، وهو الأمر الذي لم يفعل وفَضل أن يجيبني عبر بلاغ خطه مع أحزاب أخرى منها
حزبان لم أطرح عليهما أي سؤال، فإنني أستخلص أنه في وضع لا يملك معه أن يجيبني وهو
ما لا يمكن للمفاوضات أن تستمر معه حول تشكيل الحكومة، وبهذا يكون معه قد انتهى
الكلام ونفس الشيء يقال عن السيد امحند العنصر الأمين العام لحزب الحركة
الشعبية".
وفي اجتماع موالي للأمانة العامة ثمنت مضامين بلاغ عبد الإله بنكيران
في رسالة دعم واضحة له، وهو ما يستدعي استعراض مواقف الأمانة العامة خلال تلك
المرحلة ووضعها في ميزان النقد والتقييم.