حينما شرعْتُ في كتابة هذه المقالة؛ كان قد استُشهِد
في سجون الاحتلال، مصاباً بمرض السرطان،
الأسير ناصر أبو حميد، بعد اعتقال عشرين سنة،
وهو المحكوم بسبعة مؤبّدات وخمسين سنة. ولا شكّ أن هذا الحُكْم يثير استغراب
القارئ العربي، الذي لا يعرف أنّ كل قتيل صهيوني يقابله مؤبّد سجن، وأنّ المؤبّد
مفتوح غير محدّد السنوات، ومن ثمّ فالاحتلال يريد لكل مقاتل
فلسطيني، أن يموت موتاً
بطيئاً في سجونه.
وإذا عُلِم أنّ ناصراً كان قائداً لمجموعات مقاومة في الانتفاضة
الأولى، وسُجِن أثناءها أكثر من مرّة، وحُكِم عليه سنة 1990 بالسجن المؤبّد، ليخرج
عقب اتفاقية أوسلو، ثم يعود مقاتلاً في الانتفاضة الثانية، وأنّ أشقاءه الستة كلهم
دخلوا السجن، وأنّ أربعة منهم حُكِموا بالمؤبد، وأنّ له شقيقاً شهيداً هو عبد
المنعم أبو حميد استشهد في العام 1994، وأنّ بيتهم هُدِم أكثر من مرة، فنحن إذن
إزاء الصراع مركّزاً في هذه العائلة بما يدلّ على شعب عنيد، يضمّ خلاصة النبل
البشري، وعدوّ لئيم، يتكثف فيه القلق الوجودي، ويعكس معنى القيام على الكراهية، وما
يستدعيه ذلك من عنف يستفيد من التجارب الاستعمارية كلّها. ويمكن أنّ نضيف إلى ذلك
انكشاف ظهر الفلسطيني في هذا الصراع، غير المسبوق في شكله ونوعه، وطبيعة
"الطرف الآخر".
يردّ هذا المشهدُ؛ الموقفَ كلَّه إلى موقع الأسرى من الصراع، فما دام الاحتلال موجوداً ستبقى مقاومته قائمة، ليكون الاعتقال من أهمّ أدوات الاحتلال في التفكيك والتحطيم؛ تفكيك المقاومة والشعب، وتحطيمهما، ثمّ إبقاء حالة الاعتقال ماثلة دائماً، بوصفها عملية تحطيم معنويّ مستمرّة
سيكون ناصر الآن، الشهيد رقم 233 في سجون الاحتلال.
الاحتلال الذي يمتلئ في هذه اللحظة بشعور غامر بالتشفّي، ملتفتاً إلى بقية الأسرى
المحكومين بالمؤبّدات والسنوات الكثيرة، وهو يعتقد أنّه ينال منهم كلّ لحظة،
يدفّعهم ثمن طبيعتهم المفترقة عنه تماماً (النبل والشرف مقابل اللؤم والخسة)، وقيامهم
لإبطال مشروعه مقولة وفعلاً، وإلهامهم الذين من خلفهم. وهو وإذ يريد إبطال أثرهم
كما نهضوا لإبطال مشروعه، فإنه يسعى لتحطيم الشعب معنويّاً من خلفهم، وسلبهم قيمتهم
المؤثّرة، وبالرغم من كونه يخطئ كلّ مرّة في فهم هذا الشعب، فالأهمّ بالنسبة إليه
أنّه يشفي غليله منّا، ولأنّ غليله لا يشتفي، فالانتقام منّا مفتوح بانفتاح وجودنا
على الحياة، والبقاء في هذه البلاد!
يردّ هذا المشهدُ؛ الموقفَ كلَّه إلى موقع الأسرى من
الصراع، فما دام الاحتلال موجوداً ستبقى مقاومته قائمة، ليكون الاعتقال من أهمّ
أدوات الاحتلال في التفكيك والتحطيم؛ تفكيك المقاومة والشعب، وتحطيمهما، ثمّ إبقاء
حالة الاعتقال ماثلة دائماً، بوصفها عملية تحطيم معنويّ مستمرّة، فضلاً عن دوافع
الاحتلال النفسية المستجيبة لغريزة الكراهية المستبدّة به، وهو ما يستدعي من
الفلسطينيين بدورهم، استراتيجية مقابلة، لمدافعة الاحتلال على تحكّمه الكامل
بموضوع الاعتقال، وتحويل هذا الموضوع إلى عبء عليه، وهذا هو وحده، ما يجعل جانباً
من هذا الموضوع في قبضة الفلسطيني.
وبالتجربة، فإنّ النضالات وحدها هي التي ساهمت في إرخاء
قبضة الاحتلال المطبقة على هذا الموضوع، سواء بالنسبة لظروف الاعتقال عموماً داخل
المعتقلات، أم بالنسبة لقضايا أخرى ذات صلة به كحجم الاعتقال الإداري، أم بكسر
معايير الاحتلال، وفرض المعايير النضالية عليه في الإفراج عن الأسرى، وهو الأمر
الذي لا يحصل إلا بصفقات التبادل. فاتفاقية أوسلو التي منحت الاحتلال فلسطين، لم
تفض إلى إغلاق الملف وتبييض المعتقلات، وظلّ الاحتلال ممتنعاً عن الإفراج عن الذين
يصنّفهم بأنهم "أصحاب الأيادي الملطّخة بدماء
إسرائيليين"، وحَمَلَة
المؤبّدات الذين أفرج عنهم عقب أوسلو، هم الذين اتهمهم بقتل عملاء لا بقتل
إسرائيليين، وهذه حقيقة فاضحة وكاشفة!
اتفاقية أوسلو التي منحت الاحتلال فلسطين، لم تفض إلى إغلاق الملف وتبييض المعتقلات، وظلّ الاحتلال ممتنعاً عن الإفراج عن الذين يصنّفهم بأنهم "أصحاب الأيادي الملطّخة بدماء إسرائيليين"، وحَمَلَة المؤبّدات الذين أفرج عنهم عقب أوسلو، هم الذين اتهمهم بقتل عملاء لا بقتل إسرائيليين، وهذه حقيقة فاضحة وكاشفة!
تمكّنت حركة
حماس من إدراة صفقة تبادل إعجازية،
بمبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بأعداد من المحكومين بالمؤبدات ممّن
"على أياديهم دماء إسرائيليين"، كاسرة بذلك المعايير الإسرائيلية، فضلاً
عن كون القيمة العملياتية للصفقة في كون الجندي أسر داخل فلسطين، وظلّت الحركة
محتفظة به داخل قطاع غزّة، في تتويج لمحاولات واسعة للحركة في أسر الجنود
الإسرائيليين، منذ العام 1989، لتثمر بعض تلك المحاولات نجاحاً جزئيّاً في إتمام
عملية الأسر (الجنود نسيم توليدانو، ونخشون فاكسمان، أمثلة). فالاحتفاظ بالجندي في
بيئة أمنية يتحكّم بها الاحتلال بالكامل ضرب من المستحيل، بيد أنّ الحركة سجّلت
لنفسها هذا الوعي بضرورة تثبيت قضية الأسرى في برنامجها المقاوم فعلاً وإصراراً
واستمراراً.
وقد ظلّت حتى معركة "سيف القدس" في أيار/
مايو 2021 تسعى لأسر جنود كما كشفت أخيراً، دافعة لأجل ذلك بعضاً من خيرة نخبة
مقاتليها، ومنذ العام 2014 في معركة "العصف المأكول"، تحتفظ بأربعة إسرائيليين
أسرى، منهم جنديّان أسرتهما أثناء الحرب (شاؤول آرون، وهدار جولدن)، دون أن تكشف
عن معلومات كافية بخصوص حالتهم، ولا سيما عن الجنديين، في حين أنّ العدوّ عدّهما
قتيلين، ليكسب الرأي العام الإسرائيلي، ويفرض منطقه في أي صفقة تبادل محتملة.
الحركة في مهرجان انطلاقتها الأخير في غزّة، جعلت قضية
الأسرى العنصر الأبرز في المهرجان، بعرضها مجريات مفاوضات التبادل في الآونة
الأخيرة، وسعيها للإفراج عن الأسير ناصر أبو حميد في صفقة تبادل إنسانية،
وعرضها
بندقية الجندي هدار جولدن، في محاولة للإشارة إلى احتمال حياته، وقد ضمّنت
مهرجانها قراءة كلمة للهيئة العليا لأسراها داخل السجون.
منذ العام 2014 في معركة "العصف المأكول"، تحتفظ بأربعة إسرائيليين أسرى، منهم جنديّان أسرتهما أثناء الحرب (شاؤول آرون، وهدار جولدن)، دون أن تكشف عن معلومات كافية بخصوص حالتهم، ولا سيما عن الجنديين، في حين أنّ العدوّ عدّهما قتيلين، ليكسب الرأي العام الإسرائيلي، ويفرض منطقه في أي صفقة تبادل محتملة
عرضت حماس كلمة الهيئة العليا لمعتقليها، بالرغم من
رأي الكلمة في كيفية إدارة ملف التبادل، والذي يذهب إلى أن الكيفية الجارية منذ
العام 2014 غير ناجعة في تحريك الملف ودفع الرأي العام الإسرائيلي للمطالبة بإنجاز
صفقة تبادل، خاصة بعد ما ذكر من عدّ الاحتلال جندييه قتيلين على نحو رسمي.
وإذا كان يُسجّل لحركة حماس إبرازها التنوع في الرأي
في قضية حساسة كهذه؛ يصعب تكوين رأي حولها دون امتلاك معلومات دقيقة بخصوص ما تحوزه
الحركة من أوراق قوّة وضغط، مما يستوجب دائماً مراعاة أن الحركة أدرى بما لديها
ثمّ بما يناسب إدارة الملفّ، فإنّه يجدر، من جهة أخرى، بعد هذه السنوات الطويلة
على أسر الجنديين، وبعد الأثمان الهائلة التي دُفِعت جراء الاحتفاظ بهما، وإمعان
العدوّ في الانتقام من أسرانا، وإصراره على موتهم داخل سجونه، أن تعيد الحركة
دراسة آليات إدراة الملفّ على ضوء ما تعلمه مما لديها، بما من شأنه أن يحرّك الملف
بقوّة أكبر، ويدفع من جديد لكسر العدوّ ومعاييره، ويستخلص خيرة الفلسطينيين من
سجونه.
twitter.com/sariorabi