مرّت سنة على لجوء رئيس الجمهورية
التونسية المنتخب إلى تفعيل الفصل
الثمانين (80) من دستور 2014، الذي يسمح له باتحاد إجراءات ذات طبيعة استثنائية لمواجهة
وضع غير طبيعي في البلاد. ففي 25 تموز/ يوليو 2021 أعلن الرئيس "سعيد
قيس" عبر سلسلة من المراسيم والقرارات، تروم توقيف عمل المؤسسة التشريعية (مجلس
نواب الشعب)، وإقالة الحكومة وإعادة تشكيلها لاحقا، ومحاولة الالتفاف على مؤسسة
القضاء. والقائمة طويلة من الخطوات التي أقدمت عليها الرئاسة، بشكل يكاد يكون
منفردا، في سعي منها لإعادة تأسيس نظام جمهوري جديد، يجُبُّ ما توافقت عليه مكونات
الحراك الاجتماعي، وهو ما انفك يدعو إليه الرئيس منذ أن أعلن عن ترشيحه وحتى لحظة ظفره
بالشرعية الانتخابية، بنسبة لافتة وصلت إلى 72 في المائة من قاعدة الناخبين
المصوتين في الاقتراع الرئاسي.
يُذكر أن تونس عاشت على امتداد هذه السنة جدلا دستوريا وسياسيا، كتبنا مقالات
عن تطوراته، كما شهدت مراوحة بين من يناصر الرئيس في تصوراته لبناء النظام
الجمهوري الجديد، وبين من يعارضه، ويدعو إلى احترام الشرعية
الدستورية والسياسية
المتوافق حولها، والتي أعطت كل المؤسسات التي عرفتها البلاد منذ العام 2011، بما
فيها دستور 2014.
والواقع أن المراوحة كانت تعبر عن شرخ حقيقي حصل في المجتمع التونسي، ودفع
بنخبه السياسية والاجتماعية إلى التنازع والاختلاف، والتعبير أحيانا عن درجة
التوتر التي ألمّت بالمجتمع التونسي وأوقفت سيرورة انتقاله إلى
بناء الديمقراطية، وتوطيده
وتوطينها في الثقافة السياسية.
بغض النظر عمن هو على حق في هذا الجدل وهذه المراوحة، ومن هو على خطأ، عاشت تونس وتعيش مذ سنة حالة من الاضطراب الدستوري والسياسي، فتحت البلاد على أكثر من تساؤل وعلى العديد من الاحتمالات، يمكن إجمالها في تخوّف كبير حول مآلات الوضع في تونس
فكثيرا ما وُصفت خطوات الرئيس وقراراته بالسعي إلى الانقلاب على مكاسب
"ثورة الياسمين"، والتطلع إلى إقامة نظام جديد، يمكّن الرئيس من
كل
مفاتيح السلطة ومداخلها المفصلية، ويحول المؤسسات الدستورية إلى مجرد توابع
لإرادته. ولطالما أكد الرئيس، في المقابل، على أن سعيه سليم ونبيل، وأنه يتوخى خدمة
المصلحة العليا للبلاد، أي تطهير مؤسسات الدولة مما ألمّ بها من أضرار الفساد،
والمحسوبية، وخدمة المصالح الشخصية، لنخب حزبية واجتماعية؛ شككت مؤسسة الرئاسة في
نزاهتها وصدقيتها الوطنية.
يَعرفُ الباحثون في علم السياسة وما يرتبط به من مجالات معرفية مكملة له
ومعضّدة لانشغالاته، كما يفهم جيدا ممارسو السياسة والمحترفون لها، أن حيّز
الأخلاق في السياسة ضيق، وغالبا ما لا تتسع صدور المتعاطين معه قضاياها، لأسباب وجيهة
وشبه طبيعية، وهي أن منطق السياسة هو غير منطق الأخلاق بالضرورة، وأن التفكير في
السياسة، أي في تدبير تنازع المصالح، هو غير التفكير في ما ينبغي أن يكون، أي
الأخلاق وأحكامها. لذلك، وبغض النظر عمن هو على حق في هذا الجدل وهذه المراوحة،
ومن هو على خطأ، عاشت تونس وتعيش مذ سنة حالة من الاضطراب الدستوري والسياسي، فتحت
البلاد على أكثر من تساؤل وعلى العديد من الاحتمالات، يمكن إجمالها في تخوّف كبير حول
مآلات الوضع في تونس، وما السبيل للخروج من الوضع الحالي بأقل الأضرار وبمنسوب معقول
من ترشيد الخسائر، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
عملية استفتائية، تراهن مؤسسة الرئاسة وأنصارها أن تكون تتويجا لسنة من الإصلاحات، ومنطلق بناء النظام الجمهوري الجديد، ويتطلع فريق آخر من المجتمع التونسي إلى أن يرفض التونسيون هذه الوثيقة الدستورية التي نسج الرئيس فصولها، حتى تتجنب البلاد ما يراه هؤلاء خطيرا على مستقبل الجميع
عوّدتنا التجربة التونسية منذ بداية إعادة بناء الدولة الوطنية بعد
الاستقلال على أن كل القطائع الحاصلة، انطلاقا من خلع "محمد الأمين باشا"،
آخر بايات تونس عام 1957، وتنصيب الحبيب بورقيبة رئيسا لجمهورية، ومرورا بتنحية هذا
الأخير في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، وحتى فرار الرئيس "زين الدين بن علي"
في كانون الثاني/ يناير 2011.. كانت سلسة وسلمية، وحقنت الدماء، خلافا لكثير من
تجارب الانتقال إلى السلطة في المنطقة العربية، وغيرها من بلاد العالم.
فتونس التي شهدت إصلاحات مهمة في مؤسسات الدولة منذ منتصف القرن التاسع عشر
(دولة التنظيمات)، وكانت سباقة لإصدار دستور للبلاد (عهد الأمان في 9 أيلول /
سبتمبر 1857)، وتكونت لديها عبر عقود عديدة طبقة متوسطة مستنيرة وعالمة، ورسخت عبر
الزمن حسّا وطنيا جماعيا وسطيا ومعتدلا، لا يمكن أن يعجز أبناؤها عن ردم هذا الشرخ
المجتمعي، والتغلب عليه من أجل صيانة البلاد ووحدتها الوطنية.
من هنا فتونس التي تعرفه يوم الاثنين (25 تموز/ يوليو)
عملية استفتائية، تراهن
مؤسسة الرئاسة وأنصارها أن تكون تتويجا لسنة من الإصلاحات، ومنطلق بناء النظام
الجمهوري الجديد، ويتطلع فريق آخر من المجتمع التونسي إلى أن يرفض التونسيون هذه
الوثيقة الدستورية التي نسج الرئيس فصولها، حتى تتجنب البلاد ما يراه هؤلاء خطيرا
على مستقبل الجميع.. لكن، وبغض النظر عن النتائج التي سيُعلن عنها فور الانتهاء من
الاستفتاء الدستوري، فإن المطلوب والمأمول والمنتظر أن تنتصر تونس، بالمحافظة على
وحدتها.. فتونس لكل التونسيين، وليس لجزء منهم، والتونسيون جميعا بالحوار والإنصات
المتبادل، والبحث عن المشترك، والتسلح بالاستقلالية، يعيدون بناء وطنهم، ويقودون دولتهم
ومجتمعهم نحو الأفضل.