كتاب عربي 21

صور السيرة النبويّة في المناهج المدرسية: غفلة أم خدعة؟

1300x600
نلخص ما جرى للأنام والورى في سوريّة المحررة:

إن مركز الاستشراف للدراسات والأبحاث في مناطق المعارضة أصدر كتاباً للصف الأول الأساسي، وُزّع في مدينة الباب. وكان التعليم موصوفاً بالابتدائي، لكن فقهاء التربية البواسل في الحركة التصحيحية وجدوا في التسمية ضعفاً وجاهلية، فثابوا إلى الحق وغيّروه إلى التعليم الأساسي.. وعنوان الكتاب هو: السيرة النبوية.

اللجنة الموّقرة الغرّاء والمؤلفة من سبعة خبراء وفقهاء في التربية والتعليم، والتي يتردد في قائمة لجنة التأليف اسم رئيسها مرتين؛ مرّة في بطولة الإشراف العام مع لقبيه الأستاذ والدكتور، ومرّة في أعمال التربية، قد رأت أن تُعلّم الأطفال السيرة النبوية، بالصور والرسوم، بدلاً من باسم ورباب اللذين اختفيا في ظروف غامضة، غرقا في البحار، أو قصفا بالنار.

السيرة أخبار تتلى وأنباء تسرد، لا أسئلة مسابقات على منوال مسابقات من يربح المليون. تسأل اللجنة التلاميذ عن أسماء أعياد المسلمين مع أجوبة عدة، وهي طريقة أمريكية شديدة السوء، قد يكون الغرض منها هو تحفيظ التلاميذ أسماء الأعياد الوطنية والقومية والفرنجية وتعليم الديمقراطية! يقول قائلها: انظر عيد الأضحى مثل عيد الشجرة.

تعلم اللجنة الموّقرة أنف اليقين وعين اليقين، أن الإسلام يحرّم تصوير الأنبياء، وكان تصوير الصحابة محرماً قبل نصف قرن، فاستبيح برياح التأثير الإعلامي وعواصف العروض التلفزيونية على مهل، ودارت بنا الأيام حتى اقتصر تحريم التصوير على العشرة المبشرين بالجنة، ثم جرى أسرهم بفخاخ التصوير أيضاً، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ويؤدي أدوارهم ممثلون من غير المسلمين. وقد دخلتُ مرّة على أصدقاء في المقهى، فأخبروني أن خالد بن الوليد كان هنا قبل قليل بسيكاره المسلول، فسألتهم أين ذهب؟ قالوا: ذهب ليمثل دور أبي مسلم الخراساني.

لم ييأس صيادو الصور وآسروا التاريخ في صور الكاميرا، فظهر النبي في مسلسل إيراني طفلاً في المهد، وكانت إيران قد صورت النبي يوسف عليه الصلاة والسلام الذي أوتي شطر الحسن، فلم يبلغ الممثل الوسيم "مدّه ولا نصيفه ولا عشيره".

وصورت إيران ملاكاً، وفي المسلسل يظهر يوسف أجمل منه، ولم يبق سوى تصوير خاتم الأنبياء وتقوم الساعة، ولأن اللجنة تعلم بحرمة تصويره، فقد احتالت على ذلك بحيلة، فقسمت بيدر الصفحة إلى قسمين، قسم لأسئلة عن النبي عليه الصلاة والسلام متروك جوابها للتلميذ أو المدرس حتى يجتهد فيها ويعمل برأيه، أو تدريباً على الديمقراطية في غير شأنها ومجالها، والقسم الثاني للصورة التي تثبت في الخيال بمطارق اللون، فأدرك الناس حيلة الملأ الذين يأتمرون بنبيهم عليه الصلاة والسلام فغضبوا وتظاهروا وأحرقوا الكتاب.

وفي الكتاب غارات فكرية أخرى، فالأسرة التي تظهر في الصورة أسرة معاصرة، لا الأب يشبه آباء التلاميذ ولا الأم تشبه التي أرضعتهم. أسرة فرنجية الأزياء، قليلة العدد، فأصحاب الكرة الأرضية ومغتصبوها يضيقون بكثرة المسلمين وتناسلهم وأزيائهم السابغة، وهم يقتلونهم ويستأصلونهم في سوريا والجزائر ومصر وأفغانستان بالأسلحة والأدوية الفاسدة والأطعمة الكاسدة والمجاعات.

في صور السيرة النبوية في الكتاب المذكور عرس، والعروسان يعرسان على طريقة الأفلام الأمريكية، والتلاميذ يركبون الباصات الإنكليزية ذات الأنف، والقطارات على طريقة الأفلام الأمريكية، والصور تعلم التلاميذ الانبطاح في الصحراء والوقوف على إشارة المرور، وليس على إشارات الحلال والحرام، فهي أفضل طريقة في استئناس الشعوب.
ما لبثت ولاية عينتاب التركية أن علمت بالأمر، فأصدرت بياناً توعدت فيه بمحاكمة اللجنة، فخافت إدارة مركز الاستشراف والدراسات والأبحاث (بالفاء وليس بالقاف)، واضطرت أن تعتذر من الشعب السوري، وتذرّعت بأنه خطأ غير مقصود

وثمة صبي يكتب وظائفه مبطوحاً على بطنه في البادية، وتلميذة بتنورة قصيرة، وكان الأولى بالصبي أن يكون فوق سرج سابح، أو يقرأ كتاباً على كرسي المصحف من تلك التي نراها في صور الواسطي ورسومات الأوروبيين للمسلمين في المساجد.

اضطر رئيس مركز الاستشراف للدارسات والأبحاث (بالفاء وليس بالقاف) بعد المظاهرات المحتجة إلى إصدار بيان توضيحي - والتوضيح غير الاعتذار - يبيّن فيه المركز بتوقيع مديره العام ومدير المركز أن الناس (الأغبياء) لم يفهموا الصور، فهي توطئة للدخول في الدرس، وليست تصويراً للنبي. ثم ما لبثت ولاية عينتاب التركية أن علمت بالأمر، فأصدرت بياناً توعدت فيه بمحاكمة اللجنة، فخافت إدارة مركز الاستشراف والدراسات والأبحاث (بالفاء وليس بالقاف)، واضطرت أن تعتذر من الشعب السوري، وتذرّعت بأنه خطأ غير مقصود، وأبرأت الإدارة التركية من طباعة الكتاب. وذكرت أنها اعترضت على المخطوط قبل الطباعة، وأوصت بتبديله، لكن خطأ حصل كما في الأفلام الهندية عندما تختلط التوائم في مراكز التوليد، فأرسلت اللجنة المؤلفة من سبعة خبراء فحول في العلوم والتربية وأسئلة من يربح المليون - كما ذكرنا - النسخة التوأم إلى المطبعة بدلاً من النسخة الصحيحة! وهذا يذكّر بطرفة الرجل الحاذق الذي نال مئة صفعة على حين غفلة. قد يقع خطأ مثل هذا في صحيفة تصدر كل يوم عدداً، أما في منهاج تدريسي، فلعمري هو عذر أقبح من ذنب.

لكن المشكلة ليست في الصور والرسوم التي صممتها شركة "فيك ديزاين" ومقرها تركيا، والتي نظن أن تمويلها غربي، وإنما في النصوص، فقد اختارت لجنة الاستشراف في مركز الاستشراف من السيرة النبوية العظيمة، والتي لا تزال مبعثرة في كتب السيرة والتراجم وأسباب النزول وكتب الحديث، قصة زواج النبي عليه الصلاة والسلام بأمنا خديجة رضوان الله عليها للتلاميذ الصغار، وليس قصص النبي مع الأطفال، مثل قصته مع أبي عمير وما فعل النغير، ولا مع العباس وهو يأكل الطعام، ولا قصته مع معوذ ومعاذ ابني عفراء، ولا قصصه مع الحيوانات.
المشكلة ليست في الصور والرسوم التي صممتها شركة "فيك ديزاين" ومقرها تركيا، والتي نظن أن تمويلها غربي، وإنما في النصوص

ونذكر أن كتاب عبد التواب يوسف "محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين قصة" نال جائزة عالمية، وبيعت منه سبعة ملايين نسخة، وفيه صورٌ لطيفة، وهو جدير بالتدريس في المدارس الإسلامية. فاللجنة السورية المستشرفة تميل إلى القصص العاطفية المثيرة، وخالفت معهود كتب السيرة بالصلاة على النبي عند ذكره، فلم تصلِّ عليه، وبخلت بوصف زوج النبي بأم المؤمنين أو بلقب السيدة خديجة، فذكرتها باسمها مفرداً، ثم استدركت في صفحة تالية، فأكرمت منزلة ابنة النبي فاطمة وترضّت عنها (ربما لأنها من آل البيت، وليست خديجة كذلك حسب التصنيف الصفوي لآل البيت)، ولم تصلِّ على النبي في عبارة السؤال نفسه!

كنت أرى رئيس مركز الاستشراف على الفضائيات إبان اشتداد عزم الثورة السورية، وهو رجل ذرب اللسان، حاضر الحجة، شديد الاعتداد بالنفس، ووجدته مرة يهوّن من أمر إمامة المرأة للصلاة، فوقع في نفسي أنه قهرمان وسيكون له شأن. ومن الطرائف أن استنكر النظام السوري الطائفي في دمشق الواقعة وأظهر غيرة على السيرة النبوية، وندّد بتركيا التي تشوّه السيرة النبوية، وأن المفتي السوري الجديد الشيخ أسامة الرفاعي وصف الوقائع بالخطأ الجسيم. أما كاتب هذه السطور، وهو يراجع مناهج التعليم الأساسي في المحررة، فقد وجد أن سوريا المحررة كما هي سوريا المفيدة تحت حكم آل الأسد وبوتين وحسن نصر الله، فمناهجها هي مناهج النظام القذة بالقذة؛ سوى أنهم حذفوا منها صور الرئيس وتماثيل الرئيس، فاللجنة التي تضع مناهج التعليم في معظم أقطار الأرض هي لجنة السيناتور الأمريكي وليام فولبرايت تبشيراً بالثقافة الأمريكية.
كاتب هذه السطور، وهو يراجع مناهج التعليم الأساسي في المحررة، فقد وجد أن سوريا المحررة كما هي سوريا المفيدة تحت حكم آل الأسد وبوتين وحسن نصر الله، فمناهجها هي مناهج النظام القذة بالقذة؛ سوى أنهم حذفوا منها صور الرئيس وتماثيل الرئيس،
كان هناك خير في مناهج الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فأمريكا تعمل بصبر ودأب، وتستشرف لقرن قادم احتياطاً، فكنتَ تجد في كتاب النصوص الأدبية قصيدة من البحر البسيط لحافظ إبراهيم؛ تمدح عدل عمر بن الخطاب، وقصيدة نثرية بوهيمية لسليمان عواد تشرّد بنا من خلفنا، وقصيدة تفعيلة لميخائيل نعيمه من أدب الرعب، يقول فيها: السُحُبُ تَركُضُ في الفَضاءِ رَكضَ الخائِفين..

أعوذ بالله من الشيطان اللعين.

كنت صديقاً لشيخ سوري من شيوخ الأزهر، شديد المرونة، ظريف اللسان، حاضر النادرة، يستطيع أن يرقص الباليه من ليونته بالجبة والطربوش، يستطيع أن يحول الأرنب إلى فيل، ووجدته مرة يفتي في مجلس في غرفة "زووم" بجواز تصوير النبي في فيلم، واشترط أن يمثل دور النبي ممثل يصوّره مرة واحدة ويتقاعد، كما يفعل ممثلو دور المسيح في الأفلام الأوروبية، فاسوّدت الدنيا في عيني، فخرجت من المجلس من غير استئذان أو وداع، وأنا أنشد من ميمية البوصيري:

يا أكرَمَ الخلق مالي مَنْ أَلُوذُ به
سِوَاكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ

واصطدم بي الباب عند خروجي فأدمى عظام رأسي وصرعني، فقلت:

وما أنت إلا أعظُم دميت في سبيل الله ما لقيت.

twitter.com/OmarImaromar
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع