عكست مساعي بعض الأنظمة العربية إلى إعادة الشرعية لنظام بشار، في الوقت ذاته الذي تعانق فيه الكيان الصهيوني؛ حجم التيه الذي يعيشه النظام العربي الرسمي في هذه المرحلة الحسّاسة من مراحل التاريخ.
ونقول إنها مرحلة حسّاسة، لأنها مرحلة انتقال تاريخي في المشهد الدولي، بوجود صراع محتدم بين القوى الثلاث الكبرى (أمريكا، الصين وروسيا)، على امتلاك القوة ومواقع النفوذ، وبحضور لا بأس به لعدد من القوى الباحثة عن دور في العالم الجديد، بجانب صراع الإقليم الذي لم ينته فصولا، والذي تتصدّره إيران وتركيا، بجانب وضع عربي متشرذم، وبوجود الكيان الصهيوني الذي يعتقد أن لحظته المناسبة لتصفية القضية الفلسطينية قد حانت، إثر محاولتين سابقتين فاشلتين؛ بعد "أوسلو"، وبعد غزو العراق.
تنبع أهمية المشهد السوري من وقوعه بين بُعدين: علاقته بمشروع التمدد المذهبي الإيراني، وكونه جزءا من ربيع العرب
لا بد من حديث هنا قد يطول بعض الشيء (وربما كان مكرّرا) عن الشأن السوري الذي لم ينته الجدل بشأنه، وكان الأكثر تعقيدا بين المشاهد العربية الأخرى خلال "الربيع العربي"، حيث واجه الشعب السوري حالة بالغة التعقيد، ما كان لها أن تمنحه انتصارا على نظام الطاغية؛ رغم فرادة الأخير بين الأنظمة العربية، بل بين أنظمة العالم لجهة تحكّم أقلية طائفية لا تتجاوز 10% من السكان في بلد كامل.
نقول ذلك لأن هناك من يعتقد أن بعض الأنظمة قد انقلبت من النقيض إلى النقيض، من حيث سعيها لإسقاط النظام، ثم العمل على دعمه راهنا، فيما الحقيقة أن أيا منها لم يكن مع إسقاط النظام، الأمر الذي لم تمنعه إيران وروسيا وحسب، بل أيضا القوى التي عملت في الظاهر ضد النظام مثل أمريكا والغرب، إذ أجمعت كلها على المقاربة الإسرائيلية ممثلة في تحويل سوريا إلى "ثقب أسود" يستنزف الجميع، من دون إسقاط النظام، وهي المقاربة التي ناسبت تلك الأنظمة العربية، لجهة التقائها مع مشاغلة إيران في سوريا.
باستثناء تركيا وقطر؛ لم تكن لدى أي طرف نية لإسقاط النظام، فالجنوب كان محكوما لإرادة غرفة "الموك" بمحدّداتها الواضحة، فيما كان المشهد برمته محكوما لمحدّدات في التسليح؛ بـ"الفيتو" الأمريكي الصارم على السلاح النوعي (المضاد للطيران)، والذي كان وحده القادر على منع سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الروس في مناطق الثوار، باستثناء مناطق الأكراد، وحيث يتواجد الأمريكان.
شبيحة النظام وأنصاره كانوا يعرفون هذه الحقيقة، لكن حديثهم عن "المؤامرة الكونية على نظام الممانعة"، كان جزءا من الدعاية. واللافت هنا أن القوة الأكبر في المشهد العربي (مصر)، كانت محايدة في الصراع، مع آخرين داعمين سياسيا، كما حال الجزائر ودول أخرى؛ بينما بقي الآخرون مع المقاربة التي ذكرناها آنفا، لأن انتصار الثورة كان يعني الكثير لمسيرة الربيع العربي" الذي مثّل الشيطان الأكبر في عرفهم، ودفعوا وما زالوا يدفعون لأجل شطب ما تبقى من روائحه السياسية والفكرية.
تنبع أهمية المشهد السوري من وقوعه بين بُعدين: علاقته بمشروع التمدد المذهبي الإيراني، وكونه جزءا من ربيع العرب. وهنا تحديدا؛ كان من الطبيعي أن تتقدّم أولوية حرب الثاني على الأول، مع قدر من إقناع النفس بأن دعم النظام سيبعده بهذا القدر أو ذاك عن إيران، مع أن ذلك محض وهمٍّ كبير، لأن حضور الأخيرة في سوريا لم يعد رهنا بقرار عابر من بشار، بل هو حضور متغلغل في الدوائر الأمنية والعسكرية، بل وبعض المدنية أيضا؛ رغم مساعي روسيا لتحجيمه، تبعا لحساباتها الخاصة، ومن ضمن ذلك العلاقة الخاصة مع الكيان الصهيوني.
صحيح أن إيران مأزومة في العراق وسوريا ولبنان، لكن الحقيقة أن نفوذها ليس مُهدّدا بتراجع لافت قريبا
قد تحضر هنا بعض المصالح الخاصة، كما في الحالة المصرية التي ستستفيد من إيران من الناحية الاقتصادية عبر البوابة العراقية، وكما هو حال الأردن الذي يرتبط بمصالح اقتصادية مهمة مع سوريا، وكذا مع العراق (إيران قبلت منهما الحياد في الملف السوري؛ تبعا لأهمية موقفهما)، لكن أساس المعضلة الراهنة يتمثّل في حالة التيه التي يعيشها النظام العربي الرسمي، والتي نتجت عن أولوية حرب "ربيع العرب" و"الإسلام السياسي" على كل الأولويات الأخرى، أكانت المواجهة مع مشروع التمدّد الإيراني، أم منع المشروع الصهيوني من تحقيق هدفه بتصفية القضية الفلسطينية؛ دون خطوات جدية لمحاصرته، كما كان الحال دائما.
في محاور القوة العربية الراهنة، يغيب الثقل المصري، وتراه يجامل إيران ويجامل الكيان الصهيوني أيضا، كما لم يفعل من قبل، فيما تراوح أخرى بين محاربة إيران بالصوت، وبين التحالف مع الكيان الصهيوني، أو الدعم الضمني المتحفظ لاعتبارات ما، في ذات الوقت الذي تراها متورّطة ومتناقضة في اليمن الذي يتقدم الحوثيون نحو إحكام السيطرة عليه، دون ردّ مقنع.
صحيح أن إيران مأزومة في العراق وسوريا ولبنان، لكن الحقيقة أن نفوذها ليس مُهدّدا بتراجع لافت قريبا، أما السيناريو الأسوأ، فيتمثل في تفاهمات أمريكية إيرانية يرضى بها الإسرائيليون، وتعطي إيران نفوذا في الدول التي سيطرت عليها تقريبا، فيما يتقدم الصهاينة نحو تصفية القضية، والذهاب أبعد في اختراق المنطقة، وبذلك يضيع العرب بين المحورين، فيما يكون حضورهما في المشهد الدولي المتغيّر أقل تأثيرا.
معادلة شيطانية تحتاج معجزة للخروج منها، والمعجزة هي ترميم حقيقي للوضع الرسمي العربي يعيد ترتيب أولوياته من جديد، مع تفاهمات مع تركيا وإيران، تأخذ مصالح الشعوب في الاعتبار، بعيدا عن الأحلام والأوهام، وتحسّن فرص الاستفادة من الصراع الدولي الراهن.
حلفاء "إسرائيل" العرب.. بلا أوهام!
أبطال من هذا الزمان: أبو فلّة وقرداحي و"أسعد واحدة"
حوار مع شباب فلسطيني حول الأولوية