كنا على شفا حرب أهلية جديدة في المهجر التركي من أجل ثلاث موزات، وهو أمر يذكر بفيلم كوميدي عنوانه "The Gods Must Be Crazy"، وفيه تضطرب قبيلة بريّة لم تر الصناعة قط، على زجاجة كولا فارغة سقطت عليها من طائرة عابرة وتختصم. الفرق هو أن الموز وراءه جهات سياسية، بينما كانت الكولا واقعة طارئة.
وصَفَ ساسةٌ كبار حربَ النظام على الشعب السوري بأنها حرب أهلية، والدول العظمى تزعم أنها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وسارعت صحف ومواقع عالمية إلى نقل خبر طرد سبعة سوريين؛ مثل "بلومبيرغ" و"البي بي سي" و"روسيا اليوم"، مستبشرة، لكن نذر الحرب الأهلية هذه المرة كانت بسبب موزة بين المضيفين الترك والضيوف السوريين، أو بين المهاجرين والأنصار، وهي أهلية أيضاً.. موز وليس ناقة بسوس، وملخص الحكاية أن مسنا تركيا أمام كاميرا عوراء مجهولة ومغمورة، قال إنه محروم من الموز والسوريون يأكلون الموز كثيراً. والقناة التي نقلت المشهد هي قناة ضعيفة ويظهر أنها موالية لحزب الشعب الجمهوري من أوسمة القناة، لكن قنوات سورية "ثورية" تضامنت مع أكَلَة الموز المقدس وفزعت لهم، وقالت يا لثارات الموز، فإن كان السوري محروماً من الموز تحت نير الأسد، فلن يحرم منه في المنفى أيضاً، ألم يقل سوري ظريف: الموز ولا المذلة؟..
وقد سخر سوري مهاجر من علم الأنصار فوضع موزة مكان الهلال، وهو مهدد بالطرد، فالهلال رمز تركي مقدس وطنياً، وكان رمزاً إسلامياً، حتى إنَّ أهل فيينا خبزوا الكروسان على هيئة الهلال، وهم ما يزالون يأكلونه فرحاً باندحار المسلمين على أسوار فيينا. وملخص القصة أن المسلمين العثمانيين كانوا يحاصرون عاصمة النمسا، ويحفرون ليلاً تحت أسوارها، فارتاب خبّاز سمع صوت الحفر في الليل وأبلغ حكام المدينة فتصدوا للمسلمين، وأكرموا الخباز وأمسوا يأكلون خبزاً على هيئة الهلال الإسلامي منذ ذلك اليوم كل صباح ومساء.
الترك ما يزال لديهم نخوة لم تعد لدى العرب، ويغارون على الهلال. والترك فصيلان رئيسان؛ فصيل الأنصار الذين يرحبون بالسوريين المهاجرين، وفصيل ابن أبي سلول الذي يريد طرد السوريين. وقد سارعت فضائيات عربية سلولية تريد الشرّ بالسوريين وبالترك، فأخرجت أفلاماً ساخرة عن الموز، حتى كاد الفصيلان أن ينزلقا إلى حرب موز أهلية، فأحزاب المعارضة التركية تستعد للانتخابات الرئاسية القادمة بكل الأسلحة السياسية بما فيها الموز.
بطل من محور المقاومة:
ومن أبطال هذا الزمان صاحب برنامج "من سيربح المليون"، الوسيم، القسيم، جهير الصوت، الذي أشعل حرباً سياسية أهلية أيضاً بين لبنان ودول الخليج، وهم عرب وأشقاء، بتصريحات قالها في برنامج "برلمان الشعب" الصحافي، وهو يظنّ بنفسه البسالة والإقدام، ويكاد أن يُسقط حكومة كان دون تسميتها خرط القتاد. وهو أول برلمان عربي يسبب أزمة عربية معاصرة، فالبرلمانات العربية الرسمية تشبه حضانات الأطفال، بل إن مذيعاً سورياً في البرنامج اسمه محمود رحيل صار بطلاً حقيقياً يشار إليه بـ"البنان" وأشهر من رئيس مجلس الشعب السوري، وأن صحفية في البرنامج اسمها وصال ادبلا طار ذكرها في الآفاق، لأنها سألت قرداحي سؤالاً اضطره إلى أضيق الطريق، فكان ما كان.
وظهرت نخوة حكام السعودية والبحرين وغيرتهم على بلدانهم من مذيع هم الذين مهدوا له الطريق إلى مجد الشهرة، ووطّأوا له الأكناف، وتنادوا إلى الثأر منه ومن بلده الذي كان لهم فيه سؤدد كأنهم كانوا ينتظرون هذه الذريعة، حتى إنّ إعلامياً معروفاً كتب يمدح حنكة قادة السعودية في غضبتها هذه، فزعم أن السعودية لعّيبة شطرنج محترفة، وتصطاد أكثر من عصفور بحجر واحد في غضبتها على لبنان، وتصيب النفوذ الإيراني هناك في "مقتل"، فكأن
جورج قرداحي أهم من قاسم سليماني ونحن لا نعلم.
أي أن السعودية التي تحارب الحوثيين وتتوسلهم كي يكفوا عن الحرب، وترسل لهم الإشارات والعلامات، وتعدهم بالجوائز وتتشفع بأمريكا لديهم من أجل عقد معاهدة سلام مع الحوثي، وجدت أخيراً طريقة للانتصار على مذيع، فإن استقال، أعلنت النصر المفقود.
وقال الإعلامي المشهور: لا تستهينوا بلاعب الشطرنج السعودي، ونسي أن يذكّرنا بجريمة الخاشقجي برهانا وآية، والتي اقترفها النظام السعودي. إنها المرة الأولى التي يرتكب فيها مجرم جريمة كاملة علم بها سكان كوكب الأرض جميعاً. وقد تداعت دول خليجية عدة إلى التضامن مع السعودية ضد الاعتداء الإعلامي الآثم والغاشم، فالخليج كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالتنديد والشجب.
دميانة نصّار:
قرأت مقالات عدة وشاهدت مشاهد فضائية تشيد بفيلم "ريش" الذي نال جوائز دولية، بل وتمدح بطلة الفيلم الأميّة وتجعلها الأميرة ذات الهمة. وقد وجدت سبباً لإغداق المديح على الفيلم الذي شاهدتُه مضطراً ومكثتُ ساعتين أمام الشاشة وأنا أتجرع الحنظل، باحثاً عن لعقة العسل في الفيلم، أو متأملاً في عبرته، فوجدت أنه فيلم لا يطاق، لا فنياً ولا عقلياً، ولن تستطيع جوائز الأرض كلها جعله محبوباً وإن صار مطلوباً بسبب الجوائز. وقد مُنح جائزة مصرية، لأنّ الدولة العميقة في العالم تريد له العلوّ والمجد، فهو أول فيلم عربي يتبنى اللامعقول مذهباً سينمائيا، ويهتدي بمدرسة صامويل بيكيت، مؤسس مدرسة اللامعقول، فقد خنقت الأميرة ذات الهمة زوجها في الفيلم المضجر، وذبحت الدجاجة، وانتهى الفيلم نهاية سعيدة تسيل منها الدماء.
أبو فلّة وغيث:
قبل فترة صنعت الإمارات بطلاً اسمه غيث، يهتدي بحاسته التاسعة إلى الفقراء في شوارع مصر ومنازح
سوريا، ويبحث عن الثكالى والجوعى، وصنع مجداً للإمارات العربية التي قلبت حكومات عربية، وصار الناس يحلمون بهذا المحسن الكبير الذي يحب صدقة السر ويداوي جراح الانقلابات العربيةّ، مع أن المشاهد التي تُبثّ على يوتيوب ووسائل التواصل تدرُّ على مخرجها أضعاف المبالغ التي يتصدق بها، وعلى صانعها ريعاً سياسياً فقده من كثرة الإفساد في الأرض.
آخر هذه الأمثلة التي تشبه المتتالية، والمتتالية مصطلح من علم الرياضة والخوارزميات، وكان المسيري يحب هذه المصلح الذي نحَتَه منذراً بالمتتالية العلمانية الشاملة.. أنّ "أبا فلة" أعلن بطلاً ومنقذاً للعالم الإسلامي، وهو شاب في العشرينيات، أعلن عن حملة إغاثية لنازحي المخيمات بالتعاون مع الأمم المتحدة، السعيدة بكل هؤلاء النازحين، وقد جمع مليون دولار بعد ثلاثين ساعة من المرابطة على جبهة البث المباشر. أبو فلة وليس شيخ الأزهر ولا راتب النابلسي أو عمر عبد الكافي أو محمد العريفي، إن البغاث بأرضنا يستنسر.
كُتبت آلاف المقالات عن مثلث برمودا الذي يبلع السفن في البحر، وقيلت نظريات كثيرة في تفسير الظاهرة، لكن ما يحدث أنّ المسلمين والعرب يضيعون في مثلث وسائل التواصل الاجتماعي الذي صار طاحونة كبيرة.
وعدت إلى سفراء النوايا الحسنة، فوجدت أسماء هؤلاء الأبطال: حسين فهمي، دريد لحام، نانسي عجرم، كاظم الساهر، ميسي، كلهم ممثلون ورياضيون ليس منهم عالم واحد، ولا أديب واحد، وربما ينضم لهم أبو فلة الكويتي الذي يتحدث عن ميزان الحسنات وهو يجمع الصدقات للسوريين.
هناك دعاء مشهور يقول: اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلّا وارزقنا اجتنابه.
ربما تذهب الأموال إلى نظام الأسد، فقد اعترفت تقارير دولية بأنّ مساعدات الأمم المتحدة تذهب إلى القاتل، لكن سينبري كثيرون ويقولون إن أبا فلة جمع مبلغاً كبيراً عجزت عنه الجيوش الخضارم. لا بد أن وراء الأكمة ما وراءها، وقد تفكرت في مواهب هذا الفتى وأنا أنقب في موقعه على يوتيوب وسبب جاذبيته، ويعمل في الألعاب الإلكترونية وهو إعلام المستقبل، لكني لم أقع على سرّه المكنون.
فوقعت على هذه الاحتمالات:
- إن الفتى الصاخب انتبه إلى مأساة الشعب السوري في الشتاء، والتي لم يحفل زعماء عشرين دولة عربية بها، ولا دعاة الأمة وأدباؤها، وله مأساة في الصيف أيضا، لكنها في الشتاء أكبر.
فنعم الفتى أبو فلّة.
- إن الزعماء فيهم أخيار وكذلك العلماء والدعاة أمثال راتب النابلسي وعمر عبد الكافي ومحمد العريفي، لكنهم يحتاجون إذنا من ملوكهم أو الملوك الذين لجأوا إليهم، والفتى لا يحتاج إلى إذن ولا يثير ريبة وبلده غنية، فلو دعا مصري إلى ما دعا إليه الفتى لقالوا: جحا أولى بلحم ثوره.
- إن الأمم المتحدة وأمريكا وروسيا لن ترتاب في فتى يذكر عبارة ميزان الحسنات عرضا، وهو مليون دولار ليس أكثر، وغضت النظر عن الأموال التي ستنفقها وتوزعها برغبتها لا برغبة الفتى الذي سيظل مشغولا بألعابه الإلكترونية.
لكن مؤكد أنّ ثمة فراغا كبيرا في القيادات حتى برز كل هذا البروز، وحتى انطبق عليه المثل: "فيالك من قبرة"..
نحن مخيّرون بين بطولات؛ أبو فلة، وبطولة أم ماريو، وبطولة جورج قرداحي الذي يعاند في الاستقالة فوراءه إيران والأسد والحوثي، وبطولة أليسا "أسعد واحدة" وأبطلهم، والتي "ضربت" من جديد وكتبت منشوراً باللهجة اللبنانية الفينيقية، انتصفت فيه من إيران وأعادت لنا كرامتنا المسلوبة ببسالتها وبلاغتها؛ ناصحة مواطنها "سماحة السيد جورج قرداحي" بالعودة إلى محوره "والمسامح كريم".
twitter.com/OmarImaromar