انتهت وقائع
مؤتمر باريس، المنعقد يوم الجمعة (12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، دون حصول إجماع وارتياح كامل حول خريطة الطريق، التي سعت فرنسا ونظيراتها من الدول الأوروبية والعالم (إيطاليا، ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، والأمم المتحدة) إلى رسمها، والضغط في اتجاه الاهتداء بها في القادم من الأيام والشهور. ولأن الأزمة الليبية مركبة بطبيعتها، وطال أمدها لأكثر من عشر سنوات، وتعددت القوى المساهمة في تأجيجها بين داخلية وإقليمية ودولية، فقد غدا عصيّا التوافق حول مداخل حلّها، على الرغم من المؤتمرات المتتالية المنعقدة في أوروبا وخارجها.
يُذكر أن الأزمة الليبية بدأت مع دخول حلف "الناتو" أراضي هذا البلد عام 2011، وإسقاط النظام الذي ظل على رأسه "معمر القذافي" 42 عاما (1969-2011)، تعذر خلالها بناء شرعية مؤسسة على حكم القانون والمؤسسات، وتكوين مجال عمومي مفتوح؛ يتيح للمواطنين فرص المشاركة الواسعة، والتعبير الحر عن إراداتهم والدفاع عن تطلعاتهم، كما ظلوا بعيدين عن التحكم في خيراتهم الطبيعية، وهي كثيرة ونفيسة، واقتسامها بتكافؤ وعدالة.
بيد أن المفارقة التي أطالت عمر الأزمة في
ليبيا وفتحت البلاد على الانقسام وبوادر الحرب الأهلية، أن القوى التي أسقطت النظام إما تركت الباب مفتوحا على الاقتتال الداخلي والفوضى، مكتفية بالمتابعة والمراقبة عن بُعد، أو شجعت هذا الفريق أو ذاك، دون البحث الجدي عن مخارج وحلول تمكّن ليبيا، دولة ومجتمعا، من رسم طريق سالك للمصالحة وإعادة بناء شرعية الدولة والسلطة.
ويبدو أن هذا المنطق في التعامل مع القضية الليبية ما زال حاضرا حتى اليوم، ويصلح في تفسير مصادر الصورة الرمادية التي أسفرت عنها نتائج مؤتمر باريس الأخير.
انعقدت قمةُ باريس على بُعد أقل من ستة أسابيع من التاريخ المرتقب لتنظيم الجولة الأولى من
الانتخابات الرئاسية في ليبيا (24 كانون الأول/ ديسمبر 2021)، التي ستعقبها بعد شهرين انتخابات تشريعية وجولة ثانية من الانتخابات الرئاسية. وبذلك يكون الهدف الرئيس من المؤتمر تثبيت تنظيم الاستحقاق الرئاسي (انتخاب رئيس للبلاد)، وفتح الطريق أمام الاستحقاقات اللاحقة لإرساء مؤسسات الدولة، وتخويلها الشرعية النابعة من صناديق الاقتراع، أي المستمدة من إرادة المواطنين.
أما عن الأطراف المشاركة (30 دولة)، وحجم تأثيرها في وقائع المؤتمر ونتائجه، فالواضح أنها لم تكن بالشكل المطلوب والمنتظر، حيث غاب الرئيس الأمريكي، ومثلته نائبته "كامالا هاريس"، ولم يحضر كل من الرئيسين الروسي والتركي، وهما من اللاعبين المؤثرين في القضية الليبية. كما حضرت الأطراف الليبية حاملة خلافاتها ومظاهر انقسامها بين شرق البلاد وغربه، وتوزّع أذرع قوتها بين فرقاء مختلفين حول الحلول الممكنة لإخراج البلاد من أزمتها المستدامة. لذلك، رجحت تقديرات الكثير من المحللين والمتابعين لقمة باريس أن تكون نسخة مكررة عن سابقاتها من القمم والمؤتمرات.
أسفرت قمة باريس من خلال بيانها الختامي عن عدة نتائج؛ أبرزها "الاحترام والالتزام الكامل بسيادة ليبيا واستقلالها ووحدتها الوطنية"، فضلا عن "رفض كل التدخلات الأجنبية"، كما تم التشديد على "الالتزام بالتنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021".
وبخصوص الأطراف الداخلية في ليبيا، فقد تمت الدعوة إلى ضرورة التزام المجلس الرئاسي والحكومة بضمان نجاح الانتقال السياسي، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في كانون الأول/ ديسمبر عبر قوانين توافقية حسب خارطة الطريق. وفي السياق نفسه، هدّد المؤتمرون بـ"فرض عقوبات على الأفراد الذين سيحاولون القيام بأي عمل من شأنه أن يعرقل أو يقوض نتائج الانتخابات المقررة في هذا البلد، سواء كانوا داخل ليبيا أو خارجها".
ولعل من النتائج البارزة في القمة دعم المؤتمرين "خطة العمل الشاملة لسحب
المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية التي وضعتها اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)".
والواقع تُعد هذه التأكيدات والتحذيرات في قلب
التحديات التي تواجه مرحلة ما بعد قمة باريس. فالمسافة الزمنية التي تفصل الجولة الأولى عن الاقتراع الرئاسي أقل من ستة أسابيع، ولعلها غير كافية لضمان توفر سياق انتخابي سليم، يمكّن المواطنين الليبيين كافة من المشاركة في التعبير عن إراداتهم بحرية وشفافية، لا سيما وأن هناك انقساما بين مكونات المجتمع السياسي الليبي حول قانون الانتخاب. بل إن بعضهم دعوا إلى مقاطعة التصويت بسبب رفضهم القانون الانتخابي المنتظر تطبيقه في الاستحقاق المقبل، علاوة أن نجاح الانتخابات، بصفتها لحظة سياسية تنافسية، يستلزم وجود مناخ آمن وسليم وخال من التهديدات الأمنية، وهو ما يبدو غير واضح بما يكفي في الوضع الليبي الراهن، حيث ثمة هشاشة أمنية مفتوحة على كل الاحتمالات.
لا شك أن قمة باريس، على أهمية وعودها وتواضع الأطراف المؤثرة في نتائجها لاحقا، حلقة من حلقات البحث عن الخروج من الأزمة الليبية التي أنهت عقدها الأول، وما زالت ظروف التخلص منها غير مكتملة ولا ناضجة بما يكفي. بيد أن الأزمة الليبية، وإن كان دور الأطراف الدولية مطلوبا لحلحلتها بأفق حلها، فإن المعوّل أكثر يكمن في إرادة الليبيين أنفسهم، واستعدادهم الواعي والمسؤول للإبقاء على وطنهم موحدا ومتماسكا، والمساهمة الجماعية الصادقة في تغليب مصلحة البلاد والعباد على مصالحهم الشخصية. ودون هذا الوعي الوطني الجماعي، لن تخرج ليبيا من أزمتها، بل قد تتفاقم أكثر في الزمنين المتوسط والطويل.