تُقدّمُ بلاد المغرب الأربعة (المغرب/ الجزائر/ تونس/ ليبيا) صورة متكاملة عن طبيعة التوترات التي تخترق مجتمعاتها، كما تعكس حجم التحديات التي تواجه نخبها السياسية، وتنتظر منها درجة من الاقتدار لتجاوزها إيجابيا. ففي الدول الأربع هناك طلب اجتماعي متصاعد على الحرية والعدالة الاجتماعية، وهناك وعي متنامٍ للإصرار على انتزاع هذين الحقين الأصيلين، اللذين بتحقيقهما، ولو في حدهما الأدنى، ستُدشن المجتمعات المغاربية تاريخاً جديدا، وستفتح صفحة نوعية في بناء علاقة غير مسبوقة بينها وبين نظمها السياسية، أي نخبها الحاكمة التي استبدت بمصيرها منذ عقود.
تعكس الوقائع الحاصلة في البلدان الأربعة أن ثمة تباينات في التعبير عن التوترات من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وأن ليس هناك درجة موحدة تسمح بالتعميم. فبينما تعيش تونس انقساما مجتمعيا حادا، يكتسي لباسا دستوريا وقانونيا وهو في جوهره انقسام سياسي، تتعمق الأزمة الجزائرية، بين نخبة حاكمة فقدت مشروعيتها ومجتمع يتطلع منذ سنوات إلى تحرير نفسه، والتطلع إلى بناء دولته وسلطته المدنيتين.
تعكس الوقائع الحاصلة في البلدان الأربعة أن ثمة تباينات في التعبير عن التوترات من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وأن ليس هناك درجة موحدة تسمح بالتعميم
وفي المغرب، وإن كان التغيير ضمن الاستمرارية هو الغالب على تجربته السياسية، فإن المجتمع يتطلع إلى إعادة المعنى للسياسة وتدبير الشأن العام، بالقطيعة مع كل أنماط الممارسة التي كانت في أصل الاختلالات التي طالت أبنيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وأعاقت فرص تطوره نحو الأفضل.
أما في ليبيا، فالصراع واضح، من جهة بين إرادة الخروج من مستنقع الحرب الداخلية و الولاء للخارج، بأفق إعادة بناء الوطن الليبي الجديد، القادر على استيعاب كل الليبيين، ومن جهة أخرى، بين القوى الداخلية والخارجية التي تعمل على تحويل ليبيا إلى قطعة شطرنج، وأرض مفتوحة لنهب الثروات وجني الغنائم.
تجد التوترات الحاصلة في بلاد المغرب مصادرها في طبيعة المسارات التي شهدتها سيرورات بناء الدول الوطنية بعد الاستقلال. فعلى الرغم من الشعارات التي رفعتها البلدان الأربعة منذ خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، والتي أعطت انطباعات مضللة بأن ثمة انقساماً بين مشروعين مجتمعيين، أحدهما "اشتراكي" (الجزائر وليبيا)، وآخر "ليبرالي" (المغرب وتونس)، فقد أكدت نتائج الواقع أن النظم الأربعة توحدت في الصيرورات والمآلات، ولم تكن قط مختلفة في الرؤية، أو متباينة في الفلسفة.
تجد التوترات الحاصلة في بلاد المغرب مصادرها في طبيعة المسارات التي شهدتها سيرورات بناء الدول الوطنية بعد الاستقلال
ففي البلدان الأربعة تآكلت مشروعية النخب الحاكمة، وإن بدرجات متباينة، وتعمقت الفجوة بينها وبين المجتمعات، كما ضمرت قيمة العدالة الاجتماعية، وتفاقمت اختلالاتها، وازدادت التبعية للخارج. وعزّ على النظم السياسية الأربعة بناء فضاء جغرافي مشترك للتعاون والتعاضد بما يخدم مصالح المجتمعات وتطلعاتها، بل ظلت نزعة التوجس والبحث عن الحلول الفردية هي الممارسة الغالبة، حتى في ظل إحداث مؤسسات العمل المشترك.
ربما كان الرهان كبيرا على إحداث تغييرات جوهرية في البلدان الأربعة حين هبّت رياح الحراك الاجتماعي على كامل المنطقة العربية، ومنها بلاد المغرب، التي أطلقت الشرارة الأولى من تونس في نهاية العام 2010، قبل أن يعم الحراك باقي دول المنطقة بحلول سنة 2011. غير أن متغيرات جديدة، ربما لم تكن متوقعة، طرأـت على ديناميات الحراك، فأوصلت نتائجه إلى ما وصلت إليه، أي تحويله من "ربيع عربي" إلى "خريف عربي". ومرة أخرى أخطأت المجتمعات العربية موعدها مع التاريخ، حين غدا عصيّا عليها تحويل سياق انطلاق الحراك إلى فرص حقيقية لإحداث التغيير المطلوب والمراهن عليه منذ عقود.
تستمد التوترات الحاصلة في بلاد المغرب قيمتها الاستراتيجية من كونها مرتكزة على مصادر قوة جديدة لم تكن متوفرة من قبل، كما أنها مؤسسة على عوامل نجاح قلما توفرت في السابق. فمن جهة، ثمة درجة متنامية من الوعي العام لم تعرفها المجتمعات المغاربية من قبل، كما أن هناك طفرات متصاعدة في اتجاه تكوّن ثقافة سياسية نابعة من مطلب المواطنة، وضرورة إقامة دولة القانون، وأولوية تكريس ثقافة المشاركة
الديمقراطية، ولعلها مجتمعة من الأبعاد اللافتة للانتباه في بروز الوعي الجديد في المنطقة المغاربية.
أولى خطوات هذا التغيير ستضطر النخب الحاكمة على صياغة علاقة جديدة مع مجتمعاتها، وسيكون لمطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية، أي الكرامة، نصيب واضح في التعاقد السياسي الجديد الذي سيفرزه قوس التوترات في بلاد المغرب
وقد لا يجد المتابع لأحوال بلدان المغرب أي شك في رؤية انبثاق حقيقي لهذا النمط من القيم الثقافية في المجال السياسي المغاربي. فالمغاربيون في عمومهم كسروا جدار الخوف، ونفضوا المهانة عنهم في علاقتهم بالنخب التي تدير شؤونهم. كما لم تعد الخطابات المؤسسة على الأنماط التقليدية من المشروعية (الدين، التاريخ الوطني) تقنعهم، أو تتحكم في إراداتهم. نلمس ذلك في "الحراك الجزائري"، والاحتجاجات الجارية في تونس، كما نستنتج تنامي هذا النمط من الوعي في تعاطي المغاربة مع استحقاقاتهم الانتخابية الأخيرة (8 أيلول/ شتنبر 2021(، من موقعي المشاركة والمقاطعة.
لذلك، سيكون من الصعوبة استيعاب هذه التوترات بالطريقة ذاتها التي دأبت النخب الحاكمة على اعتمادها منذ عقود، بل ستكون لها، دون شك، أبعاد على مسيرة التغيير في المنطقة المغاربية، وأولى خطوات هذا التغيير ستضطر النخب الحاكمة على صياغة علاقة جديدة مع مجتمعاتها، وسيكون لمطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية، أي الكرامة، نصيب واضح في التعاقد السياسي الجديد الذي سيفرزه قوس التوترات في بلاد المغرب.. دون ذلك ستفتح المنطقة المغاربية برمتها على أفق أو آفاق غير سالكة، تضيع فيها ومعها فرص الاستقرار والأمن وأمان المجتمعات.