احتفل العديدون في العالم الإسلامي بزيارة مهاتير محمد إلى تركيا بعد جفاء طويل بين البلدين، إثر الخلاف الذي نشب بينهما قبل قرابة عقدين من الزمن، على خلفية خلاف مهاتير مع أنور إبراهيم ولجوء هذا الأخير إلى السفارة التركية في كوالالمبور. ويبدو أن قرار الرئيس أردوغان المضمر، أن لا مصالحة وعلاقات حقيقية دون رد الاعتبار لأنور إبراهيم، وهو ما حصل في الانتخابات الماليزية الأخيرة. فبعد أن قرّر مهاتير أن يعود إلى السياسة، منهياً حالة الاعتزال التي اختارها لنفسه منذ حوالي عقدين من الزمن، آخذاً على عاتقه محاربة الفساد الذي استشرى في أجهزة الدولة تحت حكم نجيب عبد الرزاق، صفيه وحليفه السابق، قام بزيارة أنور أثناء محاكمته مبدياً تعاطفه معه، ودخل في تحالف مع حزبه في انتخابات مثلّت علاقة فارقة في تاريخ الديمقراطيات، ورشح نفسه وقد جاوز حينها الثانية والتسعين من عمره، لمنصب رئيس الوزراء، وفق اتفاق يخرج أنور من ورطته القانونية ويعيده إلى عالم السياسة، مانحاً إياه المنصب بعد مرور سنتين من بداية المدة (مناصفة)، الأمر الذي لم يحدث إلى الآن رغم فوز مهاتير محمد بالانتخابات.
ميراث مهاتير
لا شك في أنّ سلوك مهاتير منذ بداية تاريخه السياسي؛ مال إلى تعزيز الهوية الوطنية وبناء حالة مناعة اقتصادية واجتماعية في مجتمع متعدّد الأعراق. فرغم غلبة المسلمين المالايو عدديّاً فيه، إلاّ أنّهم كانوا يفتقدون التمكين أمام العرقيّة الصينية التي تصغرهم عدداً وتتفوق عليهم اقتصادياً، فقام بمحاولات حثيثة لتطوير التعليم والاقتصاد، وحث المالايو على مباشرة أعمال أكثر تأثيراً وأهمية، في بناء بلدهم، ما رفع سوّيتهم وأسهم بشكل فعّال في تقدّم البلاد.
على الصعيد الخارجي، ونتيجة شخصيته القوية وطموحه الكبير، فلم يكن لديه عقدة النقص تجاه الغرب، على غرار العديد من نظرائه الآسيويين، فأقرّ سياسة "التوجه شرقاً" (Look East Policy)، مستلهماً التجربة اليابانية في النهضة، بحكم قربها الثقافي من بيئة ماليزيا، وحاول صناعة نموذج إسلامي خاص مزج فيه الحداثة، مع تعاليم الإسلام الأساسيّة كما يفهمها، فأنتج مجتمعاً مسلماً عصرياً، ينشد الاعتدال والرخاء.
رئيس الوزراء الماليزي، بالرغم من كبر سنّه، متحمس جداً لبناء محور إسلامي سداسي، استناداً على فكرة الراحل أربكان. وأغلب الظن أنّه اعتقد بأنّ نظراءه الأتراك سيكونون على نفس المستوى من الحماس، ولكنّه اضطر لفرملة جهوده، عندما عرض الفكرة على الرئيس التركي
بدا واضحاً أنّ رئيس الوزراء الماليزي، بالرغم من كبر سنّه، متحمس جداً لبناء محور إسلامي سداسي، استناداً على فكرة الراحل أربكان. وأغلب الظن أنّه اعتقد بأنّ نظراءه الأتراك سيكونون على نفس المستوى من الحماس، ولكنّه اضطر لفرملة جهوده، عندما عرض الفكرة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واكتفى بالتصريح بأنّ هذا المحور سيتكوّن في المرحلة الحالية من دول ثلاث، هي ماليزيا وباكستان وتركيا. وهو إنجاز محدود إذا ما قورن بأصل الفكرة، بحكم أنّ العلاقة بين تركيّا وباكستان في أعلى مستوياتها، فلا إضافة حقيقية في هذا المجال، ولكن يمكن أن تشهد العلاقة الماليزية التركية مزيداً من التحسن بعد فترة الفتور الطويلة التي مرت بها منذ أواسط التسعينيات، على خلفية إقصاء أنور إبراهيم.
ويمكن إرجاع الفتور التركي بالتعاطي مع فكرة مهاتير محمد إلى جملة من الأسباب، ربما يكون أهمها أسبابا متصلة بمهاتير نفسه وفرصة بقائه في الحكم، إذ كثيراً ما يتم النظر إلى مهاتير على أنّه رجل مسن، وقد يفارق الساحة السياسيّة في أية لحظة بسبب الوفاة أو اعتلال صحته، ولذا فإنّ التعاطي مع مشاريعه وعقد شراكات معه أمر محفوف بالمخاطر، وخصوصاً مع خصوماته الكثيرة والبيئة الخطرة التي أحاط نفسه بها، وهو ما يدفع الأتراك إلى التروي إلى حين مجيء أنور إبراهيم إلى السلطة.
هذا على الصعيد الشخصي. أمّا على الصعيد العام، فإنّ الدول التي يسعى مهاتير إلى ضمها إلى التحالف المفترض لم تنضج عدم أوضاعها بعد، وقدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة تكفل نجاح التحالف، أمر موضع شك كبير، فهي تحت تأثير أمريكي هائل، إذا استثنيا إيران التي لها علاقة معقّدة مع كل من تركيا وباكستان. كما أنّ هذا التحالف سيعني النهاية لمنظمة "D-8" (الثمانية للتعاون الاقتصادي) التي شكّلها رئيس الوزراء الراحل أربكان في إسطنبول عام 1997 لنفس الغرض. وهي وإن كانت ما زالت تقوم بأدوار محددة، إلاّ أنّ الأتراك ليسوا (فيما يبدو) على استعداد لكتابة شهادة وفاتها بأيديهم.
الدول التي يسعى مهاتير إلى ضمها إلى التحالف المفترض لم تنضج عدم أوضاعها بعد، وقدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة تكفل نجاح التحالف، أمر موضع شك كبير
هل حان وقت بحث مستقبل العلاقة التركية بالمعارضة السورية؟
دلالات انفتاح الأردن على أنقرة والدوحة