شهدت
الساحة العالمية عامة ومنطقة الشرق الأوسط خاصة تطورات جوهرية مهمة خلال الفترة
الأخيرة، كان أبرزها إعلان السعودية وإيران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما
وإعادة فتح السفارات في غضون شهرين، عقب مباحثات برعاية صينية في بكين، ما يمثل
تحوّلاً كبيراً في السياسة الخارجية
الصينية التي تطمح -فيما يبدو- إلى جعل بكين في طليعة الدول الكبرى، مرتكزة
بشكل أساسي على التنمية الاقتصادية، والتوسع الاستراتيجي بالشراكة مع الدول الأخرى
عبر مبادرات قائمة على بسط الاستقرار وجني المنفعة المتبادلة.
يُعدّ
العمود الفقري للسياسة الخارجية الصينية المبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني شي
جين بينغ عام 2013، تحت عنوان "
مبادرة الحزام والطريق"، والقائمة على فكرة
طريق الحرير المندثر، وتسعى إلى إنشاء شبكة مصالح وبنى تحتية مركزها الصين عبر
سلسلة ضخمة من المشاريع التنموية العابرة للحدود والقارات، وذلك من خلال إنشاء ممرات
برية وبحرية وسكك حديد، تنقل البضائع بالاتجاهين في جميع أنحاء العالم بنظم وقوانين
موحّدة، تمنع تكرار فرض الجمارك وتحد من إعاقة مرور البضائع، الأمر الذي سيساهم في
انتقالها بشكل أسرع وأكبر، لتكون أكبر مشروع بنية تحتيّة في تاريخ البشرية.
وقد أنشأت
الصين بالشراكة مع أكثر من مائة دولة "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية
التحتية"، لخدمة هذه المبادرة وتمويل مشاريعها.
أصبح جلياً لكل من يراقب تطور الصين في الجوانب العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، أنّ الاستراتيجية الصينية قائمة على التنمية والتجارة والاقتصاد، فيما تأتي السياسة لاحقة لذلك، وأنّ أداتها الرئيسة هي "الحزام والطريق"، ومن خلالها تعمل على إغراء الآخرين بأنّ التعاون مع الصين يساهم في خلق تنمية محلية، مع توفر القروض والمساعدات التي تقدمها الصين إلى مشاريع البنى التحتية والمرافق العامة
أصبح
جلياً لكل من يراقب تطور الصين في الجوانب العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية
والاجتماعية، أنّ الاستراتيجية الصينية قائمة على التنمية والتجارة والاقتصاد،
فيما تأتي السياسة لاحقة لذلك، وأنّ أداتها الرئيسة هي "الحزام والطريق"،
ومن خلالها تعمل على إغراء الآخرين بأنّ التعاون مع الصين يساهم في خلق تنمية
محلية، مع توفر القروض والمساعدات التي تقدمها الصين إلى مشاريع البنى التحتية والمرافق
العامة، في ظل الضعف الاقتصادي الغربي وغياب قدرته على المنافسة الحقيقية نتيجة
لجملة من الأسباب؛ من أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيرات جائحة، وهو ما
يسهل مهمة الصين ويعطيها فرصة كبيرة في التقدم في علاقاتها الدولية.
تعي
الصين كذلك أنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي تكرّر رسم الخطوط الحمراء لبكين، ماضية
في سياسة التحضير لحرب معها، ولكنّها تريدها حرباً آسيويّة بالوكالة تستنزف القارة
الآسيوية كما تفعل الحرب الروسية الأوكرانية بروسيا وأوروبا. وهي تحشد خصوم الصين
ضدها في تجمعات استراتيجية، كأستراليا واليابان والهند، وإنّ كانت الهند تدرك أنّ
حرباً من هذا النوع يمكن أن تؤدي إلى إجهاض فرصها في التحول إلى قوة عظمى هي
الأخرى، لكن الأمر يمكن أن يكون مختلفاً مع خصم تاريخي قوي وعنيد على غرار اليابان.
بالطبع
ليس المقصود بالحديث عن الحرب هنا حرباً عالمية على غرار الحرب العالمية الأولى والثانية،
ولكن حرباً إقليمية محدودة نسبياً تعيق تطور الصين وتمنعها من النمو لفترة طويلة، تكون
نتيجتها محافظة الولايات المتحدة على زعامة العالم لعقود أخرى إضافية.
لا شك
أنّ الحرب الروسية الأوكرانية أعطت الصين نموذجاً مستقبلياً عن الطرق والوسائل
التي يمكن أن يتم استخدامها ضدها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في
الحرب المحتملة ضدها، خاصة مع عمل واشنطن المستمر على إنشاء طوق استراتيجي حول الصين
في جنوب وشرق آسيا للحد من توسعها واستعداداً للمواجهة المقبلة معها، التي تدرك الولايات
المتحدة والصين أنها مسألة وقت فقط.
الحرب الروسية الأوكرانية أعطت الصين نموذجاً مستقبلياً عن الطرق والوسائل التي يمكن أن يتم استخدامها ضدها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في الحرب المحتملة ضدها، خاصة مع عمل واشنطن المستمر على إنشاء طوق استراتيجي حول الصين في جنوب وشرق آسيا للحد من توسعها واستعداداً للمواجهة المقبلة معها
في
المقابل، تحاول الصين تقديم نفسها للعالم دائماً، على أنّها قوة غير استعمارية وغير
توسعية، نهجها مختلف في استراتيجيتها الخارجية عن القوى الغربية التي ترمي إلى
الهيمنة على البلدان الأضعف وبث الفرقة بينها، وأنّ الاستراتيجية الصينية مبنيّة
على احترام خصوصية الغير، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والاستفادة المتبادلة والربح
للجميع، وهي لا شك قد أوجدت قدراً كبيراً من المصداقية في هذا المجال.
استطاعت
الصين من خلال عقد شراكات ضخمة مع مختلف دول العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط، أن
توجد أرضية مصالح مشتركة وثقة متبادلة مع هذه الدول، وهي تدرك أن استراتيجية
التوسع التي تتخذ من مبادرة الحزام والطريق أداة أساسية، لا يمكن أن تنجح كما هو
مأمول في بيئة من عدم الاستقرار السياسي، فهي معنية بجعل المنطقة بين بحر اليابان
والبحر المتوسط منطقة هادئة نسبياً، ومناسبة للتنمية وتنفيذ مشاريع المبادرة،
وتأمين مصادر الطاقة في الخليج، أكبر مزود للطاقة لبكين. ولذا فإنّها بدأت بطرح
مبادرات سلام بين الأطراف المتخاصمة في القارة الآسيوية باعتبارها الضامن الأكثر
موثوقيّة وحياديّة، وأنّ نتائج الشراكات القائمة مع الصين ستكون أكبر وأنفع إن
تحقق السلام بين المتخاصمين، ما سينتج عنه التنمية والنمو الاقتصادي وبالتالي
الرخاء لهذة الدول أسوة بما حصل في الصين في العقود الماضية.
لعل أبرز
تلك المشاكل التي تسعى الصين إلى حلّها، هي الخلافات بين إيران والسعودية، لأنّ
كلا الطرفين يحظى بأهمية كبيرة للصين، فإصلاح العلاقة بينهما يعني نزع الفتيل في
العالم الإسلامي الذي تعدّه الصين حليفاً مستقبليّاً طبيعياً لها ضد الهيمنة
الغربيّة، وجعله أكثر استقراراً وقوة، كما أنّ استقطاب السعودية والجزء الأكبر من
العالم الإسلامي والذي يصطف عادة مع العالم الغربي، يعني إيجاد شرخ بين الولايات
المتحدة وحلفائها، وبالتالي إضعاف واشنطن. فأي تطور في العلاقات مع العالم
الإسلامي سواء بين السعودية وإيران أو مع تركيا؛ يعد منجزاً كبيراً للسياسة الصينية
على الصعيد الاستراتيجي.
كما
أنّ شبكة المصالح الضخمة التي
تسعى الصين إلى نسجها عبر القارة الآسيوية والتي
ستكون كل من إيران والسعودية جزءاً أساسياً منها، يمكن أن تقنع الجميع أنّ الخسائر
التي ستتسبب بها أية حرب بين الطرفين أكبر بكثير من الفوائد المرجوة، خصوصاً أنّ
الضامن لحالة الاستقرار هذه هي الصين، ما يمكن أن يعني -من وجهة النظر الخليجية- أنّه
لا حاجة للمظلة الأمنيّة الأمريكية. أمّا بالنسبة لإيران فهي معنيّة بتحسين وضعها
الاقتصادي المتدهور وتحسين حضورها في العالم الإسلامي، وصورتها المشوهة على الصعيد
الدولي نتيجة العزلة النسبية التي تعيشها منذ 40 عام تقريباً، فكلا الطرفين معنيّان
استراتيجياً بتحسين وضعهما، لكنّ تحسن العلاقات المرتجى هذا، سيواجه بصعوبات عديدة
من أهمها تضرر مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل من هذا الوضع الناشئ.
لا
يعني الاستقرار في المنطقة العربية والإسلامية أن الحاجة إلى الحماية الأمريكية ستقل
وحسب، بل سيؤدي كذلك إلى تراجع الحاجة إلى التطبيع مع إسرائيل، إذ لا معنى لعلاقة
معها ما دامت الأنظمة العربية التي تعتبرتها بوابة النفوذ في الولايات المتحدة ترى
أنّ دورها يتراجع بشدة، كما أنّ إسرائيل اليوم في وضع سيئ للغاية على المستوى
الداخلي والخارجي أيضاً، وأي استثمار أو شراكة معها مكلف للغاية ومشكوك في نتائجه،
فضلاً عن أن إسرائيل ستشكّل منافساً مجانيّاً لهذه الأنظمة خاصة للسعودية التي
تريد تزعّم المنطقة، والنتجية هي انعدام الحاجة العربية إلى علاقة مع إسرائيل،
وتراجع مسيرة التطبيع معها.
رغم أنّ الاعتبارات الأيديولوجية في الصين هذه الأيام تراجعت إلى الخلف كثيراً، إلاّ أنّ الصين هي بالأساس نظام ثوري، وتدرك تماماً أنّ إسرائيل هي مشروع استعماري غربي لن يترك الولايات المتحدة ويقف إلى جانبها في أية مواجهة مقبلة، وسنرى -على الأرجح- تراجع الاهتمام الصينيّ بالعلاقة مع إسرائيل مع الوقت، ذلك لأن الفجوة التكنولوجية بين الصين والغرب قد تقلّصت بالفعل بشكل كبير، بفعل التقدم الصيني التكنولوجي، وبالتالي تقلصت حاجتها إلى إسرائيل كباب خلفي لتهريب التكنولوجيا الغربية
أمّا علاقات
الصين مع إسرائيل والتي بدأت منذ بداية الثمانيات، فهي نابعة أساساً من اهتمام
الصين بالحصول على التكنولوجيا الغربية خاصة العسكرية منها بأي ثمن، وذلك لتصغير
الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة وتمثّل إسرائيل بوابة تهريب هذه التكنولوجيا
لها. كما استثمرت الصين في بعض المشاريع لدى الاحتلال الإسرائيلي خاصة ميناء حيفا،
لاعتقادها أنها يمكن أن تصنع سكك حديد تبدأ من سلطنة عُمان في الخليج إلى ميناء
حيفا ثم إلى أوروبا وباقي مناطق العالم، وذلك كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي
أشرنا إليها سابقاً لكن تنفيذ ذلك مسألة معقدة للغاية.
ورغم أنّ
الاعتبارات الأيديولوجية في الصين هذه الأيام تراجعت إلى الخلف كثيراً، إلاّ أنّ
الصين هي بالأساس نظام ثوري، وتدرك تماماً أنّ إسرائيل هي مشروع استعماري غربي لن
يترك الولايات المتحدة ويقف إلى جانبها في أية مواجهة مقبلة، وسنرى -على الأرجح- تراجع
الاهتمام الصينيّ بالعلاقة مع إسرائيل مع الوقت، ذلك لأن الفجوة التكنولوجية بين
الصين والغرب قد تقلّصت بالفعل بشكل كبير، بفعل التقدم الصيني التكنولوجي، وبالتالي
تقلصت حاجتها إلى إسرائيل كباب خلفي لتهريب التكنولوجيا الغربية، كما أنّ الضغوط
الأمريكية على إسرائيل ستتواصل حتى تجبرها على تخفيض هذا النوع من العلاقة إلى
أدنى مستوى.
أصبح
من المعلوم بالضرورة، أنّ هناك نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب آخذ بالتشكل، وأنّ الصين
قد تحوّلت من حالة الانكفاء والحياد إلى حالة مبادرة في السياسة الخارجية، مستندة
إلى العامل الاقتصادي ومشروعها الأكبر؛ مبادرة "الحزام والطريق" في ظل
تراجع النفوذ الأمريكي. والسؤال الملحّ هو عن خيارات ومستقبل الدول العربية
والإسلامية في ظل هذا النظام المتشكل ودورها فيه، خصوصاً وأنّ كل القوى الدولية
تسعى لاستقطابها إلى جانبها.