في ظل هذه الأيام المباركة، تتجسد وحدة المسلمين من خلال فريضة الحج التي تجمع بين وحدة الزمان والمكان، والتي تكشف بوضوح (من جانب آخر) مدى اعتماد المسلمين على غيرهم حتى في متطلبات الحجاج من ملابس إحرام وسُبح وهدايا صنعت بأيدي صينية. وفي ظل هذه الأيام المباركة أيضا، جاءت زيارة رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد لتركيا، بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي اقترح فيها الأول إنشاء آلية للتعاون الثلاثي بين بلاده وتركيا وباكستان بهدف استعادة النهضة الإسلامية.
وخلال كلمة لمهاتير محمد ألقاها ضمن المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صرح بأنه يمكن النهوض بالحضارة الإسلامية من جديد بالتعاون بين الدول الثلاث. وأضاف أنه من خلال توحيد عقول وقدرات تلك الدول يمكن النهوض بالحضارة الإسلامية العظيمة التي كانت موجودة يوماً ما، وذلك عبر العمل المشترك بين تركيا وماليزيا والتعاون مع باكستان بنفس الوقت، لافتاً النظر للتحديات التي تواجهها بلدان العالم الإسلامي. كما ذكر مهاتير أنه ينبغي على تلك البلدان الإسلامية أن تكون متطورة جميعها، وينبغي على دولة ما أن تحقق ذلك الهدف، مؤكداً أنه يرى في تركيا البلد المرشح في هذا الشأن، وشدد على ضرورة أن تكون البلدان الإسلامية مستقلة.
وجاء رد الرئيس التركي أردوغان معززا هذا التوجه فأكد أن بلاده ستستمر في تقديم الدعم للآلية الثلاثية بين تركيا وباكستان وماليزيا والتي تم تشكيلها بتوجيهات مهاتير محمد، معتبراً أن تلك الآلية من دواعي الحفاظ على وحدة الأمة. وأضاف الرئيس التركي: إنه في إطار الشراكة الحوارية مع رابطة دول جنوب شرق آسيا، نولي أهمية كبيرة لدولة ماليزيا؛ لأننا نتبنى مواقف مشترك إزاء عدة قضايا، أهمها قضية فلسطين، ومعاناة مسلمي الروهيغيا في ميانمار، وتعهد بتعزيز التعاون مع ماليزيا لإيجاد حلول لتلك الأزمات.
دولنا الإسلامية في جلها دول ريعية تعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها، وأهلكتها نار الحروب والدكتاتورية وغياب حقوق الإنسان، لذا لم يكن مستغربا أنه لا توجد دولة عربية واحدة ضمن هذا المحور الثلاثي
كما اتصل الرئيس أردوغان أثناء زيارة مهاتير محمد برئيس وزراء باكستان عمران خان؛ الذي كان له السبق في تصريح سابق إبان لقائه مهاتير محمد في العاصمة الباكستانية إسلام أباد، في آذار/ مارس الماضي، بقوله: إن هناك زعيمين بارزين في العالم الإسلامي، أحدهما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والآخر رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد. وأشار خان إلى أن بلاده ترى ماليزيا كنموذج فيما يتعلق بمكافحة الفساد الذي يقضي على المؤسسات والأموال اللازمة للإنفاق على المواطنين. وأضاف: لقد رأينا صعود ماليزيا، وكذلك التحوّل الذي حققته تركيا بقيادة أردوغان وصعود اقتصادها.
وفي الوقت نفسه، رحب وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي في تغريدة عبر حسابه بتويتر بتلك المبادرة التي أطلقها مهاتير محمد، مؤكداً أن "هذه المبادرة الثلاثية الهامة ستقطع شوطاً طويلاً بتعزيز الوحدة والتنمية والتعاون بجميع أنحاء العالم الإسلامي".
هذا الثلاثي في حال تكوينه واستفادته من التكامل البشري والمادي بين الدول الثلاث، واعتماده عملات الدول الثلاث في التعامل بديلا عن الدولار، يمثل نقلة نوعية في العالم الإسلامي، ويعيد الذاكرة إلى فكرة الوحدة الاقتصادية
وتأتي هذه المبادرة من رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد في وقت الأمة الإسلامية؛ في أمسّ الحاجة لمن يأخذ بيدها ويضعها في مكانة تليق بها في خريطة العالم، لا سيما وأن دولنا الإسلامية في جلها دول ريعية تعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها، وأهلكتها نار الحروب والدكتاتورية وغياب حقوق الإنسان، لذا لم يكن مستغربا أنه لا توجد دولة عربية واحدة ضمن هذا المحور الثلاثي. فهذه الدول الثلات تمتلك قيماً مشتركة من حيث وجود صحافة حرّة وحقوق إنسان وديمقراطية وموارد متنوعة، وقبل كل ذلك دين الإسلام، وهو الأمر الذي يمكنها من التكامل الحقيقي فيما بينها، سواء من خلال الثروة السكانية أو الموارد الطبيعية أو رأس المال، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والدفاع والبحث العلمي. فباكستان من أكبر الدول الإسلامية من حيث عدد السكان والمساحة، فضلاً عن كونها الدول المسلمة الوحيدة التي تمتلك سلاح الردع النووي، وهو ما يمثل عاملا لردع الغير. فالقوة الاقتصادية لا بد لها من قوة عسكرية تحميها، أما ماليزيا وتركيا فقد استطاعتا أن تحققا طفرة اقتصادية ملحوظة، حتى تمكنتا من تلبية احتياجاتهما الداخلية والانفتاح على العالم تصديرا بصورة واضحة وملموسة.
إن هذا الثلاثي في حال تكوينه واستفادته من التكامل البشري والمادي بين الدول الثلاث، واعتماده عملات الدول الثلاث في التعامل بديلا عن الدولار، يمثل نقلة نوعية في العالم الإسلامي، ويعيد الذاكرة إلى فكرة الوحدة الاقتصادية التي لم تغب يوما عن فكر وعمل أستاذ أردوغان، وهو رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان الذي كان له الفضل في ميلاد مجموعة الثمانية الإسلامية قبل أكثر من عقدين من الزمن، وتحديداً في 15 حزيران/ يونيو 1997، وكانت تضم الدول الثلاث، بالإضافة إلى مصر وإيران وإندونيسيا وبنغلاديش ونيجيريا. وإن كان ما حدث من انقلاب بتركيا ومصر حال دون تحقيق تلك المجموعة لأهدافها في تعزيز العلاقات التجارية بين أعضائها وإقامة علاقات إستراتيجية على المدى البعيد، فإن الأمل معقود على الدول الثلاث لميلاد تكتل اقتصادي فعال.