تشهد منطقة غرب
آسيا حاليا تحولات وتطورات كبيرة تتجاوز حدود النزاعات الإقليمية المحدودة، سأحاول
في هذا المقال تسليط بعض الضوء على العوامل والديناميات المختلفة المتداخلة
المؤثرة في هذا المشهد المعقد، متناولا الآثار الأوسع والعواقب المحتملة لهذه
الأحداث.
لا يمكن للمرء أن
يقتنع بأنّ قدوم حاملات الطائرات الأمريكية إلى المنطقة هو من أجل
غزة وحسب. لقد
رأينا كيف اجتذب الصراع المستمر في غزة الاهتمام الدولي خصوصا الغربي، فلا بد أنّ هناك
دوافع أخرى كامنة للوجود الأمريكي. بالمقابل، فإن الروس مستفيدون في التوتر في غزة،
حيث يحول دون تركيز الانتباه عن أوكرانيا ويعطيهم المبرر لمزيد من التدخل في
المنطقة. إذن من المهم أن ندرك أنّ الأمريكيين والروس يرون أنفسهم مضطرين للتدخل في
المنطق لحماية مصالحهم الاستراتيجية.
تعتمد الصين، وهي
لاعب رئيسي على الساحة العالمية، بشكل كبير على الخليج لإمداداتها من النفط، ولا
بد أن الصين ترى الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة تهديدا لخطوط إمدادات الطاقة
التي تعتمد عليها في التنمية وفي المجالات الأخرى، لكنها في المقابل تستفيد أيضا
من تحويل الانتباه الأمريكي عن بحر الصين الجنوبي، ما يسمح لها بمواصلة صعودها،
بينما تكون الولايات المتحدة مشغولة في
الشرق الأوسط، وقد يشجع ذلك الصين على
اتخاذ إجراءات ضد تايوان، وهي خطوة مرتقبة منذ فترة طويلة في طموحاتها الجيوسياسية.
أمّا الدول
العربية فقد فقدت الثقة في قوة
إسرائيل وأهميتها، ومع ذلك فإنّ مخاوفهم الأكبر
تكمن في صعود القوى الإسلامية داخل المنطقة، وحماس جزء منها. هذه الديناميكية
المعقدة تخلق وضعا يحتاج إلى ميزان حساس عند هذه الدول، خصوصا أنّ الجمهور العربي،
الذي يشعر بالغضب العميق مما يجري في غزة ومن عجز الأنظمة العربية في التعامل
بجدية مع الاحتلال الإسرائيلي، يشكل خطرا كبيرا على الاستقرار، ولذا فلا يمكن
تجاهل إمكانية موجة جديدة من ربيع عربي أكثر عنفا، عندما يصل الاحتقان العام والغضب
الشعبي إلى نقطة الغليان.
أمّا إيران،
والتي تعد قوة إقليمية رئيسة، فتواجه هي أيضا نقطة تحوّل حاسمة، إذ ترتبط روايتها
وشرعيتها بمواجهتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي تبرّر على الدوام تدخلها في
النزاعات الإقليمية، مثل تلك التي في سوريا والعراق ولبنان واليمن تحت هذا العنوان،
ما يهدد بتقويض الرواية المؤسسة لإيران وتآكل تأثيرها إن لم تتدخل بشكل مؤثر في
هذه الحرب.
تجد السلطة
الفلسطينية نفسها تفقد ما تبقى من الدعم المحلي والشرعية الشعبية، نتيجة فشل عملية
السلام والخسارة المترتبة على الضفة الغربية والقدس وانهيار حل الدولتين، وتحوّلها
إلى أداة أمنية في يد إسرائيل، الأمر الذي أدى كذلك إلى خيبة أمل الشعب الفلسطيني وزيادة
الشك في قدرتها على تمثيل مصالحه بشكل فعّال.
علاوة على كل ذلك،
هناك قلق متزايد من أنّ اليهود لم يعودوا يرون إسرائيل ملاذا آمنا لهم بعد الآن،
وقد يؤدي هذا التخوف إلى نزوح جماعي للسكان اليهود، مما يزيد من تعقيد الوضع
المتوتر بالفعل في دولة الاحتلال. كما أنّ إسرائيل التي تواجه مخاطر كبيرة تهدد
بانهيارها، يجعلها بيئة غير آمنة للاستثمار ويضرب اقتصادها في الصميم. علاوة على
كل ما سلف، فإنّ تفاقم التحديات التي تواجهها إسرائيل، بالذات في حماية نفسها، سيؤثر
سلبا على إقامة شراكات وتحالفات مع دول أخرى. تعاني إسرائيل على المستوى الداخلي
من الانقسامات وفقدان الثقة في هويتها كـ"دولة ديمقراطية حديثة". هذه
الانقسامات الداخلية تضعف قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية والحفاظ على
الاستقرار.
لا شك أنّ الضربة
الإسرائيلية لقطاع غزة تحمل آثارا عميقة، وخطيرة على الشعب الفلسطيني لكنها أيضا قد
تكون تذكيرا صارخا بقابلية المنطقة للانهيار، وضرورة إعادة تقييم النهج
والاستراتيجيات القائمة.
كل هذه المقدمات
توضح بأنّنا أمام نقطة تحوّل تاريخية، سنشهد فيها تشكيل نظام عالمي جديد، وستكون
نتائج هذه التطورات الجيوسياسية في غرب آسيا، عواقب بعيدة المدى، ليس فقط على
المنطقة، بل أيضا على التوازن العالمي للقوى، على الأرجح.
المفارقة الكبرى،
أنّ حركة المقاومة الفلسطينية رغم محدوديتها، لها تأثير ضخم على الصراعات الدولية،
ما يعني أنّها يمكن أن تكون السبب الأبرز في إعادة تشكيل المنطقة بأكملها وأن تكون
نموذجا يحتذى للحرية وتقرير المصير.
وفي حين يتكشف
تراجع غرب أوروبا تدريجيا، تسهم العوامل الاقتصادية بشكل كبير في ضعفها. يخلق هذا
التراجع فراغا في القوة، مما يترك المزيد من الفرص لتأثير الصين المتنامي، خصوصا
وأنّ الولايات المتحدة تفقد التركيز وتحوّل اهتمامها إلى أماكن أخرى بعيدا عن بحر
الصين الجنوبي وشرق آسيا عموما.
بالنسبة لكثيرين،
قد تشكل هذه الأحداث بهذه المرحلة الثانية للإفلات من قبضة الاستعمار، والسعي إلى
اكتساب استقلال حقيقي، خالٍ من هيمنة الولايات المتحدة وأوروبا، زخما، بينما يحاول
الفاعلون الإقليميون إعادة تعريف علاقاتهم مع الغرب وتأكيد سيادتهم.
يمكن القول أيضا إنّ
الوضع الحالي في غرب آسيا يمكن أن يكون محفزا لصعود العالم الإسلامي وتحقيق مكانته
المرجوّة في العالم، وذلك مع تطور الأحداث واستمرار الديناميات الجيوسياسية، من
الضروري مراقبة وتحليل هذه التطورات عن كثب، وفهم تداعياتها على استقرار المنطقة
والنظام العالمي.
(المقال
مترجم من اللغة الإنجليزية ومنشور على موقع ميدل إيست مونيتور)