إذا كان الحال في
مصر قد وصل إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها، بعد أن تخطى النظام كل الخطوط الحمراء في استقرار البلاد اجتماعيا وحقوقيا واقتصاديا، وهوى بمكانتها العالمية والإقليمية بعلاقات خارجية أقرب إلى الإذلال بعقد اتفاقيات أو تحالفات سياسية مع دول تعمل على ضرب الأمن القومي العربي، فأصبح التغيير واجب الوقت، ولما كان الإبداع هو وليد التقليد، فإنه أصبح لزاما علينا أن نعرض في هذا المقال من سلسلة صناعة القيادة الثورية نماذج لتجارب وأدوات التغيير التي عاشتها البشرية.
ولما كانت هذه السلسلة معنية بالتغيير السلمي، لما له من أثر أكبر على استقرار المجتمع وإيمانه بالحالة التي يحدثها، حيث يشارك فيه أغلبه أو يتواءم معه مع الوقت، ومن ثم ستكون التجارب المعروضة وكذا الأدوات في هذا السياق. ومن روما نبدأ، حيث كانت أول فعالية سلمية في التاريخ. ففي إحدى ثورات الشعب في روما قام المحتجون بالانسحاب من المدينة وتركها خالية احتجاجاً على الظلم الذي طالهم، لاحظ تلك الفكرة الإبداعية الملهمة والقاسية في نفس الوقت على الحكام، هذه الفكرة هي تأسيس للعصيان المدني كأحد الأدوات المهمة في المقاومة السلمية. استمرت المقاومة الشعبية في العالم ضد
الاستبداد حتى القرن التاسع عشر الذي بدأت تتبلور فيه فكرة اللاعنف، وتحديدا مع المقاومة الهندية للاستعمار البريطاني، حيث بدأ غاندي في مقاومته بإعطاء دروس عملية من خلال مسيرة الملح مثلا، واغزل ثوبك بنفسك، من أجل كسر احتكار الاستعمار لسلعتين مهمتين في حينها، وهو ما يقدم لفكرة أساسها ضرب الخصم في اقتصاده بأفكار إبداعية.
أفكار غاندي الإبداعية كانت ملهمة للشعب البولندي الذي وقف متضامنا مع نقابة العمال التي دشنت على إثر الظلم البيّن الذي تعرض له عمال بناء السفن، وحملت اسم "نقابة التضامن"، والتي وصل عدد منتسبيها إلى عشرة ملايين عضو، ودُعمت من المثقفين وعامة الشعب الذي كان ظهيرا للإضراب الكبير الذي اتخذته النقابة كوسيلة للوصول إلى السلطة، وما صاحبه من حل الحزب الشيوعي وإدخال العديد من الإصلاحات
الديمقراطية على النظام.
وفي تجربة لم تبعد كثيرا عن قمع السلطات الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، كان نضال شعوب البلطيق السلمية مثالا يحتذى، فعلى مدار أربع سنوات تحملت تلك الشعوب ويلات قمع الجيش السوفييتي، واستطاع الشعب الإستوني من خلال التظاهر والاعتصام وترديد الأناشيد (ثورة الأغاني) تعطيل الحياة، وصنعوا بأجسادهم موانع ضد الدبابات السوفييتية ليسقط الحكم السوفيتي، لتسقط أمطار
الحرية على المتضرعين في ميادين إستونيا ولتوانيا ولاتفيا، والذين استمطروا الحرية، فحظوا بها.
إلا أن تجربة مارتن لوثر كنج في أمريكا تعد تجربة ملهمة على كافة الأصعدة، فلقد بنى لوثر كنج تكتيكه على إذابة الخوف في قلوب أتباعه، وكسر هيبة الدولة بتهوين الاعتقال وتثبيت الفكرة رغم التضحية، فأقبل أتباعه على الاعتقال تترى، متمسكين بقضيتهم، مستهينين بقبضة الدولة الحديدية، واستطاع بمرور الأيام اكتساب تأييد أكبر من أتباعه وتعاطف من المحايدين (حزب الكنبة) وهزيمة المناهضين.
هي دروس وتجارب كثيرة لا يسعها المقال، لكن العبرة هي بتجميع الناس على قضية تهزهم وتحركهم، قضية جامعة يؤمنون بها، وتجعلهم يضحون من أجلها. ولا يهم عندها أن يكون ما تفعله القيادة الثورية كبيرا، لكن عليها أن تكون واعية لما تفعل، ولها رؤية واضحة لما سوف تفعل، وتستخدم فيما تفعل أساليب ابتكاريه تحقق لها النجاح، حتى تثق الجماهير بها ومن ثم تقبل أن تضحي عن وعي بالقضية وبالقيادة.
وختاما، فإن معركتنا لاسترداد إرادتنا وحريتنا تستلزم تسمية الأسماء بمسمياتها، فما تطلقه الطبقة الثورية على نفسها من مسمى هو أبعد ما يكون عن حقيقة كينونتها. فالطبقة الثورية في مصر ليست معارضة كما يطلقون على أنفسهم، إلا لو كانوا يريدون لنفسهم هذا، فالمعارضة جزء من النظام، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فحقيقة كينونة
الثورة أنها مقاومة، حتى وإن انتهجت السلمية. فمن المسميات تأتي العقيدة والعكس بالعكس، ومن ثم تؤثر في لا وعي منتسبيها. فعلى القيادة الثورية أن تصنع الوعي الجازم بالمقاومة لدى قواعدها حتى يتم التغيير، وما دون ذلك فهو دون.