لم يُعلَن بعد عن النتائج الرسمية لتحقيق الفريق التركي في حادث اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" في قنصلية بلاده في إسطنبول في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، كما ظل تضارب الروايات سيد الموقف بين تصريحات المملكة العربية
السعودية والتسريبات التركية، وإن جاء الإقرار السعودي متأخرا بدخول "خاشقجي" القنصلية ولم يخرج منها؛ لوفاته بسبب "شجار" بينه وبين المبعوثين السعوديين إلى عين المكان.. لكن ظلت
الدلائل تضغط منذ اليوم الأول من وقوع حادث الاغتيال في اتجاه تحميل المسؤولية للطرف السعودي، في انتظار الكشف عن المخطِّط والآمِر بالاغتيال، ومن المنفذ وكيف؟ وأين هي جُثّة الضحية؟
غلبت على تطور وقائع الاغتيال مواقف ثلاثة أطراف، هي تحديدا: تركيا مسرح الجريمة، والمملكة العربية السعودية بلد الضحية والمعترفة باغتياله، والولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها بلد إقامة المرحوم "جمال خاشقجي"، والأكثر ارتباطا بالسعودية.. بيد أن وقع الجريمة لم يبق في الواقع محصورا في هذه الأطراف الثلاثة، بل عرف امتدادا شمل بلاد المعمورة، بالنظر لمكانة الرجل وموقعه، كأحد كتاب أكثر الجرائد تأثيرا على صنع القرار الأمريكي، وهي واشنطن بوست، ومنها الدول الأوروبية، التي لم تتردد قياداتها في التعبير الصريح عن موقفها من جريمة الاغتيال.
جاءت
مواقف أوروبا متميزة نسبيا عن نظيرتها الأمريكية، من حيث الصراحة، وعدم التردد، والتشديد على أولوية حقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة وحرية التعبير والرأي. وإذا كان نصيب
أوروبا مجتمعة من المصالح مع السعودية أقل مما لدى أمريكا، فإنها مع ذلك تحتفظ معها بروابط اقتصادية ومالية وتجارية ذات قيمة، لا سيما
في مجال التسلح، القطاع الأكثر رواجا وربحا في الاقتصاد الدولي. فهكذا، تدرجت مواقف أوروبا بين التعبير عن القلق لما حصل للصحفي "خاشقجي"، إلى الدعوة بإجراء تحقيق جدي في وقائع الجريمة ومحاسبة من ثبتت إدانته ارتكابها.. نلمس ذلك في تصريحات وزير الخارجية البريطاني "جريمي هانت" في أعقاب لقائه بالسفير السعودي في لندن "محمد بن نواف"، والأمر نفسه أكدته الخارجية الفرنسية، والمستشارة الألمانية، ناهيك عن تصريحات المؤسسات الأوروبية المشتركة، كالمفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، دون نسيان الثقل الأوروبي في المنظمات ذات الصلة بقطاع الأعلام والصحافة وحقوق الإنسان، من قبيل "اللجنة الدولية لحماية الصحفيين"، و"مراسلون بلا حدود"، و"هيومن رايتس ووتش"، و"منظمة العفو الدولية".
يمكن للموقف الأوروبي، في تقديرنا، أن يكون عامل توازن حقيقي في تطور جريمة اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، إن تمكنت القيادات الأوروبية، ومن ورائها الرأي العام لمجتمعاتها، من الذهاب بعيدا في الكشف عن الحقيقة، كل الحقيقة، وإعمال العدالة. فإذا اعتبرنا الطرف الأمريكي غير محايد في حادثة الاغتيال، على الرغم من أهمية ضغط مشرعيه في الكونجرس، والتأثير الكبير لجريدة "واشنطن بوست" التي أسقطت الرئيس نيكسون، وافترضنا أن الطرف التركي قد يراعي مصالحه ويلين أمام الضغط الأمريكي، وتتمكن المملكة العربية السعودية من الاستمرار في تسويق رواياتها المتتالية عن الاغتيال، فإن للموقف الأوروبي صدارة تحقيق التوازن في إحدى أكثر الاغتيالات مأساوية في الألفية الجديدة، ويمكن أن يفتح موقفها في معرفة الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب أفقا جديدا، لا يقل قيمة وإستراتيجية، وإن اختلف السياقان، عن الأفق الذي فتحته قضية المعارض الروسي "سولجنتسين" (1918 - 2008)، صاحب ثلاثية "أرخبيل الغولاغ" التي فتحت أعين العالم على مظالم بلاده.
ثمة مصفوفة من الإجراءات أمام أوروبا للتعامل الجدي مع واقعة الاغتيال، حين تنكشف الحقيقة كاملة، وتكتمل هوية المجرم أو المجرمين. فقد سبق للقادة الأوروبيين التصريح بأن الأمر يتعلق بجريمة اغتيال وليس وفاة في أعقاب مشاجرة بالأيادي، كما ذهبت
الرواية السعودية، كما سبق لهم التأكيد على أن ما حصل مناقض للمادة 55 من اتفاقية فيينا، وتترتب عنه بالنتيجة آثار قانونية عقابية. كما يمكنها العمل على تحريك إجراءات "محكمة الجنايات الدولية"، باعتبار ما حصل يتوفر، حين إثباته، على كل عناصر الجريمة الدولية، ناهيك عن المقاطعة، وهذا ما حصل بالنسبة لإلغاء النخب والقادة الاقتصاديين الأوروبيين مشاركتهم في ما سمي "دافوس الصحراء"، المزمع تنظيمه في الرياض من 23 إلى 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ويمكنهم، علاوة على كل هذه الإجراءات وغيرها، إعادة النظر في الممثليات السعودية بالتخفيض والاستغناء، كما حصل مع روسيا في أعقاب تسميم العميل الروسي السابق "سيرغي سكريبال" في بريطانيا.
يُنتظر في القريب جدا كشف تركيا عن حقيقة ما جرى، وعن حصيلة ما وصلت إليه أجهزة تحرياتها الجنائية والقضائية، ويُنتظر من رئيس تُركيا أن يكون صادقا أمام الرأي العام الداخلي ومع العالم، كما يُنتظر من أمريكا أن ترجح قيم ولادتها الأصيلة كدولة وأمة، أي حماية الحرية وضمانها، ويُنتظر من أوروبا أن تبقى مرجحة بقيمها الأصيلة في الدفاع عن حق الإنسان في الوجود والحياة، وفي التعبير المسؤول عما يعتقد أنه الحق.. غير هذا سيموت الصحفي الشهيد "جمال خاشقجي" مرتين: مرة يوم دخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ويوم غابت حقيقة اغتياله في سراديب لعبة المصالح.