عندما انطلق شباب مصر قبل سبعة أعوام ليقدحوا شرارة ثورتهم، اقتداءً بأقرانهم في تونس، لم تكن النخب السياسية التقليدية مستعدة للتغيير المفاجئ رغم نضالها الطويل ضد الاستبداد والطغيان. على الرغم من ذلك كان طبيعياً أن يتوجه الناس إلى تلك النخب لترشد الثورة وتقود مسيرة التغيير، وكان طبيعياً أن تتنافس هذه النخب فيما بينها على قلوب الناس وعقولها، وكان طبيعياً أن تتوجه هذه النخب إلى عامة الناس ليقرروا من يستحق ثقتهم، وكان طبيعياً أن تكون صناديق الاقتراع هي وسيلة ذلك. لكن ما لم يكن طبيعياً، وكان سبباً في الكارثة التي حلت بمصر منذ الثلاثين من يونيو 2013، هو انقلاب بعض النخب السياسية على الآلية الديمقراطية لأنها أتت بالإخوان المسلمين، ذلك الانقلاب الذي تمثل في تحالف هؤلاء، حقداً على الإخوان وحسداً لهم، مع الثورة المضادة التي نفذها عسكر مصر بتمويل سعودي إماراتي ومباركة صهيونية، فأجهضت مسيرة التغيير وقضت على حلم الشعب في الحرية والكرامة. لا يساورني شك بأنه كان سيصعب على العسكر ضرب الثورة لولا ما حصلوا عليه من تفويض، شارك في منحهم إياه طيف من النخب، بعضها من قلب الثورة المضادة – أنصار النظام القديم وأصحاب المصالح المرتبطة بعهد الفساد، وبعضها ممن يريد الديمقراطية والحرية ولكن بمقاسه هو لا بمقاس صناديق الاقتراع، وبعضها حركته الأحقاد الدينية والثارات التاريخية، وأقصد بهؤلاء أتباع الكنيسة القبطية الذين انطلت عليهم أكذوبة أن الإخوان يتربصون بهم الدوائر.
بعد سبعة أعوام على الثورة، يقف معظم أفراد تلك النخب التي فوضت السيسي بقتل الثورة، ليروا مصر تترنح سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويشهدوا بأم أعينهم كيف أصبحت أم الدنيا، تلك الدولة التي كانت في يوم من الأيام الأعظم شأناً والأكثر سكاناً والأثرى موارد، أقل قيمة من ظفر أصغر إصبع في رجل الدنيا، لم يعد فيها كرامة ولا قانون ولا حتى إنسانية، يحكمها سفيه جمعت له كل الصلاحيات، لا يحسن تدبير الكلام ولا تدبير شؤون الأنام. تمكن بما أغدقه عليه أعراب الخليج – الذين هم الأشد كفراً ونفاقاً – من شراء الذمم، وتكميم الأفواه، وتحويل مصر الأزهر والعلم والمعرفة والتاريخ الزاهر إلى مملكة رعب وصمت أخرى. في هذا الوضع المأساوي ثمة بشائر بحدوث صحوة – نجمت عن صدمة – لدى بعض أفراد هذه النخب، وجيد أن نسمع من بعضهم أنهم أدركوا الآن جسامة ما ارتكبوه بحق الثورة من جرم وعظم ما وقعوا فيه من خطيئة.
لم يكن الإخوان بالذات هم هدف الثورة المضادة، رغم أن هذا ما أشيع ومازال يظنه البعض سذاجة. لو كان غير الإخوان هم من جاءت به صناديق الاقتراع إلى البرلمان، لحُل البرلمان، ولو كان رئيس مصر الذي صوت له أكثر من نصف المقترعين بحرية ونزاهة من غير الإخوان لانقُلب عليه. وجميل أن يدرك بعض من فوضوا في الثلاثين من يونيو (حزيران) وزغردوا ورقصوا يوم الثالث من يوليو (تموز) وصمتوا – أو نطقوا فبرروا – يوم أزهقت أرواح الأبرياء في رابعة والنهضة وما قبلهما وما بعدهما، جميل أن يدركوا الآن أن رأس الديمقراطية في مصر – كما في غير مصر – هو المطلوب وأن نقل السلطة إلى الشعب هو المستهدف بالإعاقة والإحباط بل والحظر التام، وذلك لأن تحول مصر إلى بلد ديمقراطي يختار الشعب فيه حكامه ويحاسبهم ويستبدلهم كل حين، كان سيعني تخلص المنطقة العربية بأسرها، ولو بالتدريج، من أنظمة الاستبداد والظلم والفساد.
قدر الإخوان أنهم كانوا أول من وثقت نسبة كبيرة من الناس بهم في أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ البلاد، فصاروا من حيث رغبوا أو لم يرغبوا قادة عملية التغيير وإعادة البناء. ولو أنهم تركوا ليتموا فترتهم – سواء في البرلمان أو في الرئاسة – لربما عزف الناس عنهم في الانتخابات التالية، ولربما جددوا لهم لو شعروا أنهم أهل للثقة وحمل الأمانة. إنني على قناعة تامة بأنه كان سيحصل مع غير الإخوان ما حصل معهم لو كان غيرهم في موقعهم، ولو كان غير الإخوان هو من وقع ضده الانقلاب لما كانت الحملة التي شنها العسكر عليهم أقل شراسة، انتقاماً منهم وردعاً لغيرهم.
مازلنا لا نعرف إلا اليسير من تفاصيل ما كان يدور من وراء الكواليس، ولكن تواترت الروايات حتى الآن بأن الإخوان لم يكونوا على الاستعداد للتفاوض على حق الشعب في الاختيار. ولذا، فهم الآن يدفعون ثمناً باهظاً، من قتل وسجن وتشريد، وحظر وتحريض، واتهام وتشويه. ولو أن الإخوان وعلى رأسهم الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي أبدوا استعداداً للتنازل عن حق انتزعه الشعب من براثن الطاغية بثورته العظيمة، لربما أفلتوا من العقاب الجماعي الذي أوقعه الظالمون بهم. ونعرف أيضاً أن الإخوان لم يكن لديهم من خيار آخر سوى الثبات على الحق والتضحية في سبيل المبدأ، بما هم عليه من فكر وما تلقوه من تربية وما لهم من تاريخ ناصع، فما نالت منهم لا التهديدات ولا الإغراءات، فكانت تضحيتهم أشبه بتضحية الغلام في قصة أصحاب الأخدود بنفسه حتى يرى الناس الحق حقاً والباطل باطلاً.
بسبب ثبات الإخوان وتضحياتهم، ورفضهم الخضوع للابتزاز بكل أشكاله، مازالت روح الثورة حية بعد سبعة أعوام، ومازال ليهبها متقداً رغم كل محاولات الإخماد. ويوماً بعد يوم تنقشع الغشاوة عن العيون، بفعلين اثنين، أما الأول فهو ثبات مرسي وإخوانه، وأما الثاني فهو سقطات السيسي وأعوانه. صحيح أن الإخوان وغير الإخوان اجتهدوا وأخطأوا حين ظنوا أن العسكر يمكن أن يكون حارساً للدولة المصرية ولنظامها الديمقراطي الوليد وراعياً لعملية التحول وإعادة البناء، ولم يفطنوا – كما لم نفطن معهم – أن الجيوش في عالمنا العربي ليست في الواقع جيوشاً وطنية، بل هي مراكز قوى فاسدة، تنهب أقوات الناس وتتنعم بالخيرات وتستأثر بالامتيازات، بينما عامة الشعب يعاني الأمرين. كانوا يقولون عن عساكر مصر إنهم خير أجناد الأرض، ولم يدركوا أن جيش مصر في زمننا كما جيوش باقي الدول العربية لم تنشأ لحماية الأوطان، ولم تربى على الولاء للأمة، وإنما هي كيانات ضخمة مترهلة تديرها عصابات أو مافيات. لكن الإخوان كانوا أول من أدركوا زيف شعار "الشعب والجيش يد واحدة"، وفهموا أن الجيش هي اليد التي أعدت لتبطش بالشعب إن طالب بحقه أو دافع عن كرامته. لقد عانى الإخوان من قيادة الجيش أيما معاناة منذ اليوم الأول لعملية التحول في مطلع 2012، أي بعد عام واحد تقريباً من انطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني). ولقد حذر الرئيس مرسي الناس قبل أن يخطفه العسكر وناشدهم ألا يسمحوا لأحد بسرقة ثورتهم وتحطيم حلمهم، إلا أن كثيراً من الناس كانوا في حالة من الثمل، ظنوا أن الأمر كله يتعلق بالإخوان، وأنه بعد التخلص منهم يمكن أن تستقيم الأمور. ما حذر منه مرسى قبل أكثر من أربعة أعوام بات يحذر منه اليوم الملايين بعد أن رأوا ما حل بمصر على يد السيسي وطغمة العسكر من ذل وهوان وتخريب ودمار.
عودة الوعي مهمة، ولو بعد بضعة أعوام، وما بضعة أعوام في أعمار الأمم. إنه الوعي بأن المستهدف هو الشعب وليس فئة منه، الشعب بكل أطيافه وبكل ما لديه من إرث ثقافي وحضاري وما يفترض أنه يملكه من مقدرات مالية وبشرية. والحرب التي يشنها العسكر في مصر اليوم على كل من تسول له نفسه تحدي السيسي وزبانيته إنما هي حرب على الشعب بأسره. عودة الوعي تعني انقشاع الضباب ووضوح الرؤية إلى أن الانقسام الحقيقي ينبغي أن يكون بين من يريد الحرية والعزة والكرامة لهذا الشعب ومن يريد له أن يظل مستعبداً مستضعفاً مهيض الجناح. في الخندق الأول يقف كل عشاق الحرية وطلاب الديمقراطية بينما يقف في الخندق الآخر العسكر والمنتفعون من سطوتهم وطغيانهم.
في العيد السابع لثورة الخامس والعشرين من يناير نذكر تارة أخرى بأن التغيير الثوري لا يأتي بعد جولة واحدة، بل بعد جولات وصولات. ولعل الحضيض الذي وصلت إليه مصر في عهد السيسي، الذي لم يترك خطيئة من خطايا نظام مبارك إلا ارتكبها ولا منكراً من منكراته إلا أتاه، يؤذن بانطلاق شرارة الجولة الثانية من الانتفاضة العربية العظيمة. ولئن كان لكاتب هذه السطور من رجاء في هذه المناسبة العزيزة على قلوب كل الأحرار حول العالم فهو أن يكون ثوار مصر السابقين واللاحقين قد تعلموا درساً مما مضى، فلا يسمحون بانحراف بوصلتهم عن وجهة واحدة، ألا وهي إعادة السلطة إلى الشعب وتأسيس نظام ديمقراطي يقوم على التداول على السلطة من خلال الاقتراع الحر والنزيه وعلى سيادة القانون والمساواة أمام القانون وعلى تحريم انتهاك أي من حقوق الإنسان الأساسية، ولعل وعسى أن تكون الجولة القادمة هي الحاسمة.