بعيدا عن ضجة الإعلام، كان الرئيس السابق الدكتور المرزوقي والحكومة
التونسية ينسقان بشكل متواصل منذ سنة 2012 مع علي المري المحامي الخاص لدى الأمم المتحدة المكلف، باسترجاع الأموال المنهوبة من عدد من الدول العربية بما فيها تونس.
وتم بالفعل استرجاع أرصدة زوجة الدكتاتور بن علي من لبنان سنة 2013، وكانت تلك فاتحة مهمة إجرائيا لاستكمال المسار.
وأعلن المري هذا الأسبوع نية دولة اللوكسمبورغ إعادة الأموال المنهوبة في حساباتها البنكية. كان هذا الموضوع أولويا. لكن الآن أصبح ثانويا. فعندما أعلن المري هذا الأسبوع استعداد اللسكمبورغ لم يكن أي مسؤول تونسي حاضرا.
بل الأسوأ من ذلك تقوم الحكومة التونسية عمليا بتقويض أي آمال جدية في استرجاع هذه الأموال، من خلال تمرير الفصل 61 في قانون المالية الجديد، الخاص بـ"العفو عن مخالفات الصرف التي ارتكبها الأشخاص من ذوي الجنسية التونسية قبل غرة جانفي 2016"، وهو عمليا صيغة معدلة من الفصل السابع من "قانون المصالحة" الذي اقترحه الرئيس
السبسي، وهاجمته المعارضة، وأيضا المنظمات الدولية لمكافحة الفساد.
رئيس الجمهورية ببلاغة تنتمي ربما لعصور أخرى، برر القانون من أسبوع بأنه يتم تفعيله فقط مقابل "جعالة".
وبغض النظر عما يقصده السبسي، فإن هذه الكلمة كما هو معروف في اللسان الدارج التونسي تمثل المقابل الذي يتوافق عليه الراشي والمرتشي. وهذا يزيد الشكوك في أن القانون الذي قدمه السبسي هو لمكافأة رجال الأعمال المشبوهين الذين دعموا حزبه وغيره من أحزاب التحالف الحاكم.
واختارت منظمة الشفافية الدولية بن علي من ضمن أسوأ الفاسدين في العالم في منافسة شرسة على المرتبة الأولى مع مبارك وفيفا، (تقدر الأموال التي هربها واستولى عليها بحوالي 5 آلاف مليار، في حين تقدر القيمة الجملية لمرابح الشركات التي كانت تعمل لمصلحة العائلة حوالي 26 ألف مليار، أي ما يعادل ميزانية الدولة).
وأكدت المنظمة في تقديمها لابن علي أن قانون المصالحة المقترح من السبسي وكل ما يمت إليه بصلة، إنما يساعد بن علي وحاشيته على تطبيع فسادهم والإفلات من العقاب. وكانت المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية قامت بالانتقادات ذاتها.
كل المنظمات الدولية المختصة في محاربة الفساد تؤكد الشيء ذاته. وهنا لا يمكن تجاهل تواطؤ التحالف الحاكم في غض النظر على فساد "عصابة السراق"، كما سمتها مظاهرات الثورة التونسي آخر سنة 2010، الذين تسببوا في اندلاع الانتفاضة واستشهاد وجرح مئات التونسيين.
جائزة نوبل فخر لتونس، لكن كل ذلك دون معنى إذا واصلنا في تعميق أسباب الثورة. هذا دون التعريج على تصاعد الخطاب الاعتذاري المشيد بابن علي في أكثر من مكان.
منظمة "أنا يقظ" التونسية أصدرت بيانا هذا الأسبوع، قالت فيه في السياق ذاته: "حدد مجلس أوروبا يوم 31 كانون الثاني/ يناير 2016، تاريخا لرفع العقوبات المالية المسلطة على عائلة بن علي (48 شخص). وخلال لقائنا بالمسؤولين عن ملف العقوبات بالاتحاد الأوروبي، أكدوا لنا أن تجديد العقوبات وبالتالي الإبقاء على تجميد حسابات بن علي وعائلته، متوقف على المعطيات التي ستقدمها تونس وعلى مدى تقدم عمليات التحقيق في تونس، التي بالإمكان اعتبارها سببا كافيا لتجديد العقوبات لسنة إضافية".
وتدعو منظمة "أنا يقظ" رئاسة الجمهورية إلى سحب مشروع قانون المصالحة المالية والاقتصادية لما تسبب فيه من ضرر على قضية تونس أمام المحاكم الأوروبية. كما تعدّ منظمة أنا يقظ تمرير الفصل 61 من قانون المالية، هو تقويض لجهود القضاة والسلطات التونسية المشتغلين على استرجاع الأموال المنهوبة منذ خمس سنوات، باعتبار أن مثل هذه الفصول أو مشاريع القوانين تشجع على الإفلات من العقاب.
وأشرت في مقال سابق منذ أشهر إلى جملة الأرقام والمعطيات المتعلقة بهذا الموضوع. حيث أكدت التسريبات المعروفة باسم "سويس ليكس" التي تم نشرها في عدد من الصحف الدولية في شباط/ فبراير 2015 أن رجال أعمال تونسيين، بما فيهم المنتمون لبعض العائلات التي بقيت نافذة بعد الثورة هربوا أموالا طائلة إلى أحد أشهر البنوك السويسرية.
وكشفت التسريبات التي تخص بنكا سويسريا واحدا عن أكثر من 600 حساب بنكي مرتبط بأشخاص طبيعيين تونسيين، أو شركات تونسية، وأنها تحتوي ما قيمته 550 مليون دولار.
وكانت دراسة سابقة عن جامعة ماساشوستس (امهرست) صدرت سنة 2012 حول هروب الأموال إلى الخارج في شمال إفريقيا، كشفت أنه خلال فترة "الكفاءات" زمن بن علي، خسرت تونس ما قيمته 33.9 مليار دولار بمعدل 1.5 مليار دولار في السنة.
في خضم استغراق التونسيين في خطر الإرهاب، مرر مجلس نواب الشعب باقتراح من حزب "
نداء تونس" وبدعم من حزب النهضة فصلا قانونيا في قانون المالية؛ يسمح بالعفو عن المشبوهين والمتهمين بالفساد خاصة ممن سرقوا المال العام قبل الثورة، وأودعوه في مصارف أجنبية، وبعضهم من حاشية بن علي، وأيضا ممن يدعمون التحالف الأغلبي الآن، وقبل الانتخابات.
إن هذا القانون بشروطه الحالية (خاصة التي تسمح للمتهمين بالسرقة بإعادة ما يقولون إنهم سرقوه أي دون تثبت حيث يمكن أن يصرحوا بأي شيء)، وأيضا دون وجود إصلاح جبائي يصلح الثغرات الموجودة في القوانين الحالية، سيجعل من هذا العفو تطبيعا للسرقة بل ودعمها وتقوية السراق ومنطق سرقة المال العام. من البديهي أن ينظر الكثيرون إلى ذلك على أنه توظيف سياسي للإرهاب خاصة بعد الحملة الناجحة ضد قانون السبسي لتطبيع الفساد.
إن برنامج الائتلاف الحاكم بإشراف السبسي يتلخص في عقلية "الجعالة"، حيث يمكن تبرير حتى تطبيع حالة الفساد بالمصلحة الوطنية و"جهود مقاومة الإرهاب".
أحد النواب الذين أتى بهم السبسي لمجلس نواب الشعب غش في التصويت على قانون المالية قبل يومين بالتصويت مرتين. وعندما سئل عن سبب فعلته أجاب بالحرف: ''خرقت النظام الداخلي من أجل الوطن''. هذا توصيف دقيق وليس مجانبا للحقيقة. فالسبسي وحزبه والآن أعضاء التحالف الحاكم تحيلوا سياسيا على إرادة الشعب التونسي أيضا من أجل الوطن.
فكل شيء يهون من أجل الوطن بما في ذلك قبول "الجعالة".