هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يمكن التسرع واعتبار الحركة التكتونية البطيئة في المنطقة من حيث تفكك وتقارب محاور إقليمية متضادة في مستوى الزلزال بعد. لكن ما يحصل ليس بالهيّن، فالخطوط الفاصلة بحزم بين ثلاثة محاور إقليمية: التركي- القطري، الإيراني- السوري-الحوثي، السعودي- الإماراتي- المصري؛ لم تعد خنادق عميقة تفصل بين الأبيض والأسود. خطوط التماس أضحت رخوة، في المقابل عوامل الصراع بصدد التغير بعد سنوات من الصراع. وعوض محورية المسألة الديمقراطية ودور الإسلام السياسي السني كأحد العوامل الأساسية للتقارب أو التناقض، أصبح العامل الجديد يتعلق بمسائل هيكلية جيوسياسية واقتصادية، فموازين القوى أصبحت المحور.
الطبخة كان تنضج على نار هادئة منذ شهور طويلة وعبر وساطات غير معلنة خاصة أوروبية، وأحد أهم المسارات كان فتح قناة تركية مصرية. عوامل الصراع تعود إلى انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 واعتبار تركيا أن إسقاط الرئيس مرسي، مسألة بالأهمية التي تستوجب صراعا مع سلطة السيسي.
تصرف أردوغان في تلك السنوات كزعيم إقليمي للإسلام السياسي، وتعقدت الأمور تدريجيا بفتح جبهات جديدة بين الطرفين، حيث أصبحت ليبيا (ببطء لكن بثبات) مجال مواجهة تركية- مصرية، وصلت لأوجها بإعلان حفتر "عملية الكرامة" واستهداف حكومة السراج، الذي لم يكن في الأصل على عداء مع القاهرة (علاقة العائلات الطرابلسية العريقة مثل عائلة السراج كانت عموما ودية مع القاهرة).
ثم جاءت اتفاقية رسم الحدود البحرية، وقرار القاهرة الارتماء في الصف اليوناني-الإسرائيلي. في ليبيا، ثم خاصة في موضوع شرق المتوسط وثرواته الطبيعية بدأ الصراع ينتقل من مضمون أيديولوجي- سياسي إلى مضمون جيوستراتيجي، وكان ذلك المدخل أن محورية موازين القوى نزعت العواطف الأيديولوجية الجياشة كعامل تغذية للصراع، وخلقت السياق المناسب للتفكير المنفعي البارد. وبدأت الاتصال مباشرة بعد اتفاق أثينا مع تل أبيب وتهميش القاهرة، حينها فتحت نافذة واستغلتها أنقرة، خاصة مع حرص القاهرة بعدم المساس بالمصالح التركية في اتفاقية مع اليونان حول الحدود البحرية. وانطلقت مفاوضات شاملة في خصوص كل الملفات الإقليمية، بما في ذلك الوضع في ليبيا بعد فشل حفتر في اقتحام طرابلس، ودور أنقرة في تعديل الكفة في الميدان العسكري.
في الضفة الأخرى، في الخليج، حسم مآل الانتخابات الأمريكية موضوع المصالحة الخليجية، وكان اندحار ترامب آخر مسمار في نعش الحصار الإماراتي- السعودي على قطر. أصبحت المصالحة وفق منطق موازين القوى واستعادة الحد الأدنى من "التضامن الخليجي" أيضا مناسبة لتحول الصراع من مضامينه العاطفية الأيديولوجية إلى سياق موازين القوى. وهكذا انطلقت المصالحة القطرية- المصرية أيضا.
كل من تعود على إحداثيات الأبيض والأسود ومحورية وضع الإسلام السياسي كعامل تناقض وتقارب؛ أصبح في التسلل. دخلنا مرحلة جديدة لتنظيم التحالفات والصراعات فيها اعتراف متبادل بين محتلف القوى/ الدول بقدرتها على الصمود أمام الطرف الآخر، وأن القضية الأساسية هي قضية البقاء والتوسع، وليس قضية أيديولوجية. وهكذا جاء موضوع "سد النهضة" ليعزز أهمية العامل الجيوستراتيجي على حساب المعطيات الأيديولوجية.
ففي المسبار المصري وفي مطبخ الحكم في القاهرة، لم يعد من البديهي أن يتم تنظيم الأولويات على أساس عدائية الإسلام السياسي. طبعا الضغط الإماراتي أكثر طرف لا يزال يتشبث بالإحداثيات الأيديولوجية، ولن يكون الأمر منتهيا إذ سيتواصل الضغط على القاهرة لتسبيق العامل الأيديولوجي- السياسي. في المقابل، عقل الدولة المصرية العتيق سيدفع نحو الإحداثيات الجيوستراتيجية، خاصة أن إثيوبيا بصدد المس بعصب الوجود المصري ذاته، أي النيل.
في السياق التونسي يبدو الكثيرون خارج التغطية، غير قادرين على تعديل البوصلة والتفكير خارج الصندوق الأيديولوجي وإكراهاته. لكن المنطق يتحرك، والمحاور تختلط، وسيفهم البعض تدريجيا ضرورة التفريق بين المناكفات الصغيرة في الفنجان التونسي، وتوازنات الإقليم.
العامل الجزائري سيبقى تونسيا أساسيا، لكن لن نشهد عقلا استراتيجيا تونسيا بصدد التجرك والتفكير في ظل الانقسام الحاد الراهن، وتشتت السلطة التنفيذية. المصالحة في تونس موضوع أساسي ليس فقط لمجابهة التحدي الاقتصادي والمالي الكبير الذي يمكن أن يهدد الوضع ككل، بل أيضا لاستيعاب والتأقلم مع التحيينات الإقليمية. ومنها أن الإسلام السياسي هو فقط معطى من بقية معطيات، ليس محور العالم، ولا يحدد مسار الديمقراطية أو التوازنات الاستراتيجية.
twitter.com/t_kahlaoui