فهم
الإرهاب ليس تواطؤا معه. مثلما قال المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية بيرني ساندرز هذا الأسبوع ردا على مزايدات الجمهوريين في الرد على "هجمات باريس": "نحتاج أن نكون أشداء على الإرهاب، لكن لا يجب أن نكون حمقى".
نحتاج للفهم وليس للهستيريا. لكن قابلية الفهم ليست دائما متوفرة. وبحسب أحد المواقع الإخبارية
التونسية هذا الأسبوع، فإن "الحكومة التونسية قررت فتح تحقيق فيما يخصّ ملابسات اختفاء الوثيقة الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمكافحة الإرهاب".
أرجو ألا يكون الخبر صحيحا. وسواء ضاعت الوثيقة أم لم تضع فقد تم تغييبها. فقد شرعنا في إطار رئاسة الجمهورية وتحديدا من خلال المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية سنة 2014، بالتنسيق مع رئاسة الحكومة في الإعداد لمؤتمر وطني لمكافحة الإرهاب، من خلال المساهمة في إعداد وثيقة "استراتيجيات وطنية".
من الضروري في هذا السياق التذكير بالبحث حول "السلفية الجهادية في تونس، الواقع و المآلات" من إنجاز المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (نشر في ديسمبر 2014)، وهو حصيلة عمل وحدة البحث في هذا الموضوع بين جوان 2012 وديسمبر 2014 تاريخ استقالتي من إدارة المعهد. ونظرا لمحدودية الميزانية آنذاك لم نطبع سوى مئة نسخة، وعليه قررت آنذاك نشره للاطلاع المجاني على الإنترنت.
مثل المعهد آنذاك الباحث سامي براهم، الذي ذكر هذا الأسبوع (بمناسبة خبر "ضياع الوثيقة") أن "وثيقة مكافحة الإرهاب فيها تشخيص دقيق للمناطق الحدودية، مؤكدا أنها "وثيقة الدولة"، شاركت في إعدادها وزارات الداخلية والدفاع والعدل والشؤون الدينية، ومئات الخبراء من مؤسسات الدولة، وشارك فيها براهم ممثلا عن المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، وقد استغرقت في إعدادها عاما ونصفا تقريبا".
وقد توجهت منذ أشهر برسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الباجي قائد
السبسي، تفاجأت فيها برد المكلف بالإعلام في رئاسة الحكومة الذي نفى وجود الوثيقة في القصبة (ورجّح وجودها في وزارة الداخلية) كأنها وثيقة مكتوبة باليد ضاعت بين الرفوف.
يأتي ذلك في الأسبوع ذاته الذي تم فيه ذبح الراعي الطفل مبروك السلطاني والتعاطف الشعبي الواسع معه، ومع عشيرته وسكان محيط جبل مغيلة عموما (حيث تنشط مجموعة إرهابية تتبع على الأرجح "
داعش"، عكس مجموعة أخرى تنشط باسم "كتيبة عقبة" تتبع تنظيم "القاعدة"). خوفا من تهديدات الإرهابيين اضطرت بعض العائلات الخروج من محيط الجبل والالتجاء إلى أحد المدارس، بما يعكس وضعا خطيرا يتقدم فيه نفوذ الإرهاب من وسط الجبل إلى محيطه، وعوض تأمين ودعم العائلات لتكون سدا متقدما للقوات المسلحة، تتراجع وتهجر محيط الجبل.
نحتاج استراتيجيا في مكافحة الإرهاب أي خطة شاملة متناسقة، لا تتناقض في جزئياتها؛ لأن للإرهاب أيضا استراتيجيات. وهي معلنة في أهم أدبياته. الاستراتيجيات بشكل ملخص تقوم على خطوتين. أولا الحاجة للفوضى والدفع نحو تعميقها من خلال "الإنهاك". وفي مؤلف "إدارة التوحش" يقدم الكاتب التصور التالي: "هذه الثّورات العربيّة التي تمهّد لحدوث فراغ سلطوي يعقبه لا شكّ فوضى عارمة تعيد المنطقة العربيّة إلى حكم الطّوائف والقبائل، وستتبعثر أوراق النّظام العالمي القائم قبل الثّورة وستشكّل عاملا مهمّا في خلخلة الاقتصاد الغربي، وبالتّالي دفعه لمزيد من الإنهاك الذي سيساهم في تدميره كليّة".
الخطوة الثانية البروز بصفة الطرف القادر على ملء الفراغ. في مؤلف "المذكرة الاستراتيجية" يكتب عبدالله بن محمد أن أنصار الإرهاب سيسيطرون؛ لأنهم "امتلكوا السّلعة الوحيدة التي يبحث عنها الشّعب وسط تلك الفوضى وهي الأمن الذي نجحوا في توفيره".
نحتاج ألا نكون حمقى وأن نفهم الإرهاب، لكي لا نضرب في الأماكن الخطأ. ومن الواضح أن الإرهاب يريدنا أن نكون حمقى. وأن نكون كذلك هو أن نلتجئ إلى ردود الفعل الهستيرية التي تبدو "قوية"، لكنها تضرب في الأماكن الخطأ لتخلق وضعيات يبحث عنها الإرهاب ليترعرع أكثر. مثل المؤشرات الآن على "زرع" الإرهابيين لجواز سفر سوري في موقع جريمة هجمات باريس لمزيد التضييق على اللاجئين السوريين، والجالية الإسلامية في أوروبا. وذلك هدف معلن لداعش.
وتنص إحدى كتابات "داعش" الموجهة للناطقين بالإنجليزية من خلال العدد السابع (فيفري 2015) لمجلة "دابق" بوضوح على ما يلي: "مسلمو الغرب سيجدون أنفسهم بسرعة بين خيارين. إما الردة وتبني ديانة الكفر التي يروج لها بوش وأوباما وبلير وكاميرون وساركوزي وهولاند باسم الإسلام من خلال مواصلة العيش بين الكفار، أو الهجرة للدولة الإسلامية وبالتالي الهرب من ملاحقات الحكومات الصليبية ومواطنيهم"
نحتاج ألا نضرب في الأماكن الخطأ مثل التضييق على الحريات الدينية. أذكر هنا بما صرح به الإرهابي التونسي أبو بكر الحكيم قاتل الشهيد محمد
البراهمي في حوار أجرته معه "دابق"، المجلة الناطقة بالإنجليزية باسم "داعش" حول تأثير سياسات بن علي في توسيع دائرة الإرهاب، والمساهمة في خلق حاضنة له ليست خاطئة، إذ يقول: "الطّاغية المغفّلُ بن علي لم يترك لأحد الفرصة لممارسة شرائع الدّين، حتى وإن كانت الممارسة على منهج خاطئ؛ فلقد أقام عليهم جميعا حربا ووضعهم في السّجن، وهذا كان جيّدا بالنّسبة للإخوة لنشر العقيدة السّليمة والمنهج القويم في تونس".
عندما نحاول أن نفهم، سنرى أن "البروفيل" والنموذج الإرهابي ليس بالضرورة شخص مغرق في التدين. بل على العكس هو شخص سطحي التدين. لنأخذ آخر الأمثلة على ذلك. من بين من تم إيقافهم في "خلية سوسة" الأسبوع الماضي في تونس بقيادة الإرهابي نبيل الحداد: "عون أمن أصيل منطقة سيدي الهاني بولاية سوسة، انتدب للعمل عام 2011 استقطبته الإرهابية المعروفة باسم عائشة رغم أنه سكير ولا يصلي، وممن يعرفون بالتردد المتواصل على الحانات، فمكنها بعد فترة من صور لمسؤولين أمنيين بسوسة التقطها بنفسه، من بينها صور لآمر فوج التدخل، إضافة لصور سياراتهما وصور لثكنة النظام العام".
أيضا "الإرهابي حمزة السالمي الذي ألقي القبض عليه في حدود الساعة العاشرة من ليلة الأحد بحي “القابادجي” بسوسة المدينة، تبين أنه مزطول ومتناول لمادة مخدرة." (جريدة الصباح 17 نوفمبر). ينطبق ذلك أيضا على شخصية سيف الدين الرزقي الذي قام بمجزرة نزل "الإمبريال" في سوسة في الصيف الماضي، وأيضا على بعض المورطين في "هجمات باريس" مثل الأخوين عبد السلام البلجيكيين من أصل مغربي، اللذين يملكان حانة وأحدهما يستهلك الحشيش بشكل دوري وروتيني.
هنا بعض الدراسات الواردة في كتاب المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، تقدم مقاربة ميدانية لمواجهة هذه الشخصية. بعض الدراسات اعتمدت على التحليل النفسي المباشر واكتشفت وجود ظاهرة استهلاك الحشيش، في إطار وضع كامل يتميز باضطرابات نفسية مميزة. فعامل التحول الراديكالي نحو وظيفة الإرهابي، ليس العمق البضاعة الدينية المتطرفة بدقر ما هو قليل عميق نفسي يتذرع بالتدين المتطرف السطحي لممارسة علاج هو مرضي في حد ذاته، مشابه جدا لمن يريد العلاج النفسي بآفة المخدرات.
سأختم بمقتطف من إحدى هذه الدراسات وهو مقال "من أجل مقاربة نفسية اجتماعية للظاهرة السلفية في تونس" للدكتور محمد الحاج سالم، وتتركز حول صفات "المريد" لدى بعض النماذج المدروسة، وهي كالتالي: "إنّ الانتماء يكون غالبا نتيجة وجود نزاعات عائليّة أو اجتماعيّة، وهو ما يجعل الجماعة تمثّل ملجأ واقيا من العنف النفسي الاجتماعي الممارس على المريد، بما يرسّخ قناعته بمسؤوليّة المجتمع عامّة وأسرته على وجه الخصوص على ما يعيشه من صعوبات تكيّف. فالانتماء إلى جماعة سلفيّة، هو في الأعمّ استجابة لمطلب استقلال عن العائلة تغذّيه في الغالب أحلام مجهضة لمراهقين، أو قطيعة مع مرحلة اطمئنان نفسي شخصي أو عائلي، وهو ما يُكسب الانتماء إلى جماعة طابعا شبه استشفائيّ، إنّها توفّر مرجعيّة جديدة تعترف بالمنتمي فاعلا، مقابل محيط اجتماعي متفلّت وعاجز عن استدماجه اجتماعيّا وثقافيّا".