التناقضات في كثير من الحالات هي انعكاس لحالة التأزيم وتعبير عن الاستقطاب الحاد، لذا كانت التناقضات هي الغالبة في المشهد السياسي الليبي خلال الأيام القليلة الماضية، وليس هذا من قبيل القول بأنها مستحدثة، وإنما القصد الإشارة إلى ظهورها بشكل كاشف بعد الإعلان عن
ميثاق المبادئ الذي تم التوصل إليه في
تونس الأسبوع الماضي.
الاتفاق الذي استقبل بترحاب من جمهرة من الواضح أنها متنوعة ومنتشرة في أنحاء البلاد تم التحفظ عليه بأسلوب نقدي منطقي، وهو الاتجاه المحدود في التعاطي مع الاتفاق، فيما كان الطعن والتفسير التآمري هو الطاغي عند أغلب المتحفظين عليه.
عندما يحتد النزاع لن تُعدم الذريعة لتبرير موقفك المتشدد، ولا تحتاج إلى جهد مضاعف لتمرير موقفك الرافض، فالاستقطاب الحاد راكم العداوة والكراهية بحيث يسهل كسب تأييد الأنصار بتمرير التفسيرات التآمرية لتجعل القرائن أو الشبهات التي تطرحها ترتقي إلى مستوى الدليل القاطع عند الرافضين، ومن يؤيدهم من نشطاء ومن عموم الناس.
المتشبع بخطاب الأزمة لا يمكن أن يصمد أمام القول بأن من اتفقوا في تونس هم من المتشددين حيال حوار الصخيرات من الطرفين، وسيجد نفسه منساقا لقبول معارضة المتحفظين على الاتفاق دون عناء.
والحقيقة أن بعض من خطت أناملهم مضمون الاتفاق كانوا فعلا من المتشددين حيال اللقاء بالآخر الخصم السياسي والمتعسفين في وصفه والمتطرفين في الحكم عليه، ولم يلحظ المتابع فضلا عن الإنسان العادي تطورا تدريجيا في مواقفهم يجعل القبول بما طرأ من تغير عليهم أمرا ميسرا.
حتى الحائزين على درجة من الوعي العام والوعي السياسي الذين يدعمون حوار الصخيرات وينتظرون نتائجه الإيجابية بفارغ الصبر، لابد أنهم تأثروا بالقول إن الاتفاق الفجائي، إنما هو من مكر ودهاء المعارضين للصخيرات، ودبروا هذه "المسرحية" للتشويش على مخرجات الصخيرات التي في رأي أنصارها قاب قوسين أو أدنى من النضوج.
على الجانب الآخر عبر من استقبلوا الاتفاق بفرح عارم بأنهم يأملون فيه خيرا كونه تجاوز الخلاف حول قضايا حيوية على رأسها حكومة ليون التي يتحفظ عليها طرفا النزاع، والأهم عندهم هو أن اتفاق تونس كان عملا
ليبيا خالصا، ونجح في تجاوز الوصاية الغربية التي، في نظرهم، لا يمكن أن تأتي بخير، خصوصا بعد التسريبات التي تقدح في حيادية الوسيط الدولي السابق، برننادينو ليون.
ما يزيد من تناقضات المشهد فيما يتعلق باتفاق تونس هو مباركة رئاستي الجسمين التشريعين، وكليهما من المتشددين في مواقفهم التفاوضية من الآخر، دون أن تتضح في اتفاق تونس أي ضمانات حقيقية تحقق لكليهما ما يؤمن بأنه مصلحة عليا، أو حتى مصلحة خاصة.
ويبقى من الضروري القول إن المفاجأة والعموم فعلا فعلهما في المؤيدين والمعارضين على السواء، فبالنسبة للمؤيدين رأوا في الاتفاق سد هوة جعلتهم تجاذبات حوار الصخيرات يعتقدون بأنها كبيرة، وتقريب أمل، جعلتهم إحباطات حوار ليون يظنون أن تحققه بعيد، فيما رأى فيه المعارضون قفزا على الحقائق إلى المجهول وإضاعة لجهود جبارة ونتائج مهمة، تم التوصل إليها في الصخيرات باتفاق خال من مضمون حقيقي وعلى أيدي من لا سلطة أو تفويض لهم.
لكن ميثاق تونس أكد بما لا يدعى مجالا للشك التطلع الكبير لعموم الليبيين إلى اتفاق أطراف النزاع بأي شكل من الأشكال وعلى أي صيغة من الصيغ، طمعا في أن يتوقف الاحتراب وتختفي مسببات الأزمة لتعود الحياة إلى طبيعتها ويعم الأمن وتزدهر البلاد، وهو ما ينبغي أخذه في اعتبار أطراف الأزمة وجعله في مقدمة مبررات تنازلهم.