لفهم
الأطروحات السياسية المهيمنة على المشهد
التونسي وعلاقتها الملتبسة بـ"الجمهورية
الأولى" -أي بالنظام القديم في مرحلتيه الدستورية والتجمعية- وللوقوف على
الآثار الكارثية لتلك العلاقة غير المتكافئة نظريا وواقعيا، فإننا لن نجد أفضل من
أطروحة مهمّشة بعد
الثورة ألا وهي أطروحة "الجمهورية الثانية". وقد كان
المعارض المرحوم طارق المكي (غرة كانون الثاني/ يناير 2013)
قد أسس حزبا يحمل هذا الاسم، بما يحمله من دلالات رمزية ومن تناقضات داخلية أكدتها
مواقف المرحوم قبل الثورة وبعدها.
فـ"الجمهورية
الثانية" هي حزب غير قانوني قبل الثورة، وهو حزب يكاد زعيمه أن يتماهى مع
البورقيبية رغم نقده الحاد لنظام المخلوع الذي ورثها؛ كما كان زعيم
"الجمهورية الثانية" أول من أشاع مقولة "ديغاج" (ارحل) التي
تحولت إلى أيقونة من أيقونات "الربيع العربي"؛ وكان أول من وظّف وسائل
التواصل الاجتماعي بصورة ممنهجة (سلسلة "ألف ليلة وليلى) عبر موقعي "الدايلي
موشن" و"يوتيوب" لإحراج النظام داخليا وخارجيا، وذلك رغم سياسة حجب
المواقع في تونس قبل الثورة؛ وهو أخيرا تلك الشخصية المهمشة شعبيا ونخبويا بعد
الثورة، بحيث لم يحضر في جنازته -بعد موته المريب بسكتة قلبية- أبرزُ الوجوه
السياسية والحقوقية من مختلف التيارات الفكرية.
النجاح الأبرز لمنظومة الاستعمار الداخلي أو للدولة العميقة بعد "الثورة" كان هو الفصل بين نظام المخلوع والبورقيبية من جهة أولى، ومن جهة ثانية نجاحها في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار هوياتي أساسه التقابل بين "العائلة الديمقراطية" التي تشمل "الدساترة" (أي التجمعيين) وبين "الظلاميين" و"الرجعيين" المهددين للنمط المجتمعي التونسي بقيادة حركة النهضة
لقد
أردنا أن ننطلق من المصير "المأساوي" (بالمعنى الإغريقي للكلمة) لأحد
رموز النضال ضد نظام المخلوع؛ لأننا نعتبره قابلا للتعميم على أبرز السرديات الأيديولوجية
التي هيمنت على مرحلة التأسيس والانتقال الديمقراطي برمته خلال ما يُسمّى الآن بـ"العشرية
السوداء". فالبورقيبية التي كاد المرحوم أن يتماهى معها -رغم أنها السردية
التأسيسية لانقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 الذي طرح نفسه "تحولا مباركا" من داخل التراث البورقيبي- لعبت بعد
"الثورة" وخلال مرحلة التأسيس دور السردية المرجعية أو "الخطاب
الكبير" والمهيمن على مختلف الفاعلين الجماعيين.
والخطاب
الكبير كما هو معلوم في المدارس النقدية هو ذلك الخطاب الذي تستمد منه سائر
الخطابات المتصارعة شرعيتها، بحيث تزداد تلك
الشرعية كلما اقتربت منه وتماهت معه،
وتفقدها كلما ابتعدت عنه أو اتخذت مسافة نقدية منه. وقد تجلّى انتصار
"البورقيبية" على الثورة وخطاباتها المتنازعة بإعادة تدوير رموز
المنظومة القديمة والاحتكام إليهم زمن التأسيس تحت شعار "استمرارية
الدولة". فلم يكن نفض الغبار عن شخصية المرحوم الباجي قائد السبسي -رغم أنه
أحد رموز المنظومة القديمة- وفرضه في رئاسة الحكومة؛ إلا دليلا على تهافت مرحلة
التأسيس وهشاشتها المنذرة بالانقلاب على مخرجاتها ولو بعد حين.
إن
النجاح الأبرز لمنظومة الاستعمار الداخلي أو للدولة العميقة بعد
"الثورة" كان هو الفصل بين نظام المخلوع والبورقيبية من جهة أولى، ومن
جهة ثانية نجاحها في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار
هوياتي أساسه التقابل بين "العائلة
الديمقراطية" التي تشمل "الدساترة"
(أي التجمعيين) وبين "الظلاميين" و"الرجعيين" المهددين للنمط
المجتمعي التونسي بقيادة حركة النهضة.
ولذلك
كانت القضايا الهوياتية أهمَّ قضايا مرحلة التأسيس ودُفع بالقضايا الاقتصادية
والاجتماعية إلى خلفية المشهد والهامش، أما البورقيبية فقد أصبحت مقدسا وطنيا
مشتركا بحيث لم تتخلف حركة النهضة ذاتها في تبنيه، سواء تحت ضغط مطلب
"التَّونسة" أو تحت شعار البحث عن "المشترك الوطني" داخل
التراث الدستوري، لتبرير التحالف السياسي -خيار التوافق- مع حلفائهم من ورثة
التجمع. ولذلك أصبحت لحظة التأسيس مجرد لحظة من لحظات إعادة التوزان -بل إعادة
الشرعية- للنظام القديم وللجمهورية الأولى برموزها وخياراتها الكبرى ومكوناتها
الصلبة، فأصبح الحديث عن "جمهورية ثانية" مجرد مجاز في خدمة حقيقة واحدة
هي أن الثورة قد فشلت في بناء سرديتها الخاصة التي تجعلها تتجاوز جدليا
"الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية على حد سواء.
إذا كانت عملية التأسيس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطية قد فشلت في بناء "الجمهورية الثانية" (جمهورية المواطنة الكاملة التي تتجاوز جمهورية ما دون المواطنة أو المواطنة المشروطة)، فإن "تصحيح المسار" قد جاء بمشروع "التأسيس الثوري الجديد" رافعا شعار "لا عودة إلى الوراء". ولكنّ هذا "الوراء" الذي تقصده سردية تصحيح المسار يكاد ينحصر فيما يسميه أنصارها وموالاتها النقدية بـ"العشرية السوداء"
بانقلاب
"الآباء المؤسّـسين" على الثورة واستحقاقاتها ومطالبها المشروعة، وبتجنّبهم
مساءلة البورقيبية في أسسها قبل محصولها، تحولت لحظة التأسيس بعد الثورة إلى مجرد
صفقات أو تسويات لا مبدئية تحكمها موازين القوى الداخلية المؤقتة وإملاءات القوى
الخارجية المهيمنة على الشأن الوطني من وراء ألف "حليف" (وكيل محلي). وهو
ما يعني واقعيا أن لحظة التأسيس لم تكن مطابقة لرهانات المرحلة ولا لانتظارات
التونسيين؛ بقدر ما كانت مطابقة لاستراتيجيات المنظومة القديمة في إعادة التموقع
والانتشار تحت غطاء "البورقيبية" ومقاومة التطرف والدفاع عن النمط
المجتمعي التونسي. وهي مقولات سجالية كان دورها تذويب الخلاف بين العائلات
الحداثية اللائكية (بتجمعييها ويسارييها وقومييها) وبناء كتلة أيديولوجية تجد علة
وجودها في مقاومة الإسلاميين، لا في التخلص من إرث الاستبداد والفساد وتفكيك
مرتكزاته الفكرية وأطره المؤسساتية.
أما
حركة النهضة فقد اختارت دخول الدولة لا مواجهتها، وهو خيار لا يمكن إنكار وجاهته
من حيث المبدأ وإن كان قابلا للنقد الجذري من حيث "الشروط". فالنهضة
اختارت التحالف مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وهو ما يعني فك الارتباط
بين تمثيليتها الشعبية وبين تمثيلها داخل أجهزة الحكم ومراكز صنع القرار من جهة
أولى، كما يعني من جهة ثانية سلبيتها أمام استمرار الابتزاز السياسي الممنهج لها،
سواء بمنطق مواجهة "أخونة الدولة" أو بمنطق مسؤوليتها الجنائية في ملفي
الإرهاب والاغتيال السياسي.
إذا
كانت عملية التأسيس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطية قد فشلت في بناء
"الجمهورية الثانية" (جمهورية المواطنة الكاملة التي تتجاوز جمهورية ما
دون المواطنة أو المواطنة المشروطة)، فإن "تصحيح المسار" قد جاء بمشروع
"التأسيس الثوري الجديد" رافعا شعار "لا عودة إلى الوراء". ولكنّ
هذا "الوراء" الذي تقصده سردية تصحيح المسار يكاد ينحصر فيما يسميه
أنصارها وموالاتها النقدية بـ"العشرية السوداء". وبصرف النظر عن أصل هذه
التسمية (فترة الحرب الأهلية في الجزائر)، فإن "السواد" لا يمتد ليشمل
منظومة المخلوع وسلفها البورقيبي.
ورغم
أن الرئيس لم يبرر إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 بالخطر الداهم الوارد في الدستور فقط، بل تحدث عن "خطر دائم" يشمل فلسفة
التأسيس وأجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب)، فإن موقفه من الأساطير المؤسسة
للدولة-الأمة وكذلك تطبيعه مع تركتها القيمية والبشرية -من خلال علاقة التعامد
الوظيفي مع الدولة العميقة- يجعلنا نعتبره ممثلا لضرب من البورقيبية المعدّلة.
فالرئيس
الذي يرفض العودة إلى الوراء لم يجد مهربا من إعادة الاعتبار لبورقيبة وتمجيده عند
زيارة ضريحه، وهو ما يمثل انقلابا على بعض الانتقادات السابقة لمؤسس الدولة-الأمة،
كما أن الرئيس -بحكم طبيعة مشروعه السياسي ذي البنية الحداثية الدينية الهجينة- قد
اضطُرّ إلى التماهي مع جوهر الجملة السياسية للبورقيبية (الزعامة الفردية، هيبة
الدولة، وحدة السلطة، شيطنة المعارضين باعتبارهم خونة ومتآمرين على الدولة ذاتها
وليس على نظام الحكم) دون التطابق معها (رفض مفهوم التحزب، وهو رفض يمكن رده إلى
الخلفية الأيديولوجية اليسارية للديمقراطية المباشرة بحكم قولها بنهاية زمن
الأحزاب).
ختاما،
فإننا نستطيع الجزم -دون مجانبة الصواب- أنّ التأسيس (سواء أكان ذلك زمن الانتقال
الديمقراطي أم كان بعد "تصحيح المسار") هو عملية تحمل بذور فشلها في
تناقضاتها الداخلية قبل غيرها من العوائق الموضوعية. فما قامت به الأحزاب وكل
الفاعلين المؤثرين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي كان مجرد تغيير للبناء التشريعي
الذي لا يمس بمصالح منظومة الاستعمار الداخلي وما يؤسسها في مستوى السردية
البورقيبية.
الصراع بين 24 تموز/ يوليو (الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة) و25 تموز/ يوليو (الديمقراطية المباشرة وإنهاء الحاجة للأحزاب) ليس صراعا بين مشروعين للتأسيس لجمهورية ثانية، بقدر ما هو صراع بين مشروعين لإضفاء الشرعية على الجمهورية الأولى لكن بمفردات مختلفة
فقد
أصبح الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" والبحث عن
"التوافقات" و"التسويات" مجرد غطاء للدفاع عن المصالح المادية
والأسس الفكرية لمنظومة الحكم الريعية الزبونية التابعة. أما المهمشون والمقصيون
من آليات إنتاج/ توزيع السلطة والثروات المادية والرمزية فلم يكن نصيبهم من الثورة
إلا مزيدا من التفقير رغم المشاركة الصورية في صناعة المشهد السياسي. أما
"تصحيح المسار" فإن غياب أية حاضنة حزبية له وقيامه على التعارض المطلق
مع كل الأجسام الوسيطة قد جعله يبحث عن حاضنته في أجهزة الدولة، ويبحث عن أسباب
بقائه في علاقة الاعتماد المتبادل بين سردية تصحيح المسار (باعتبارها سردية سياسية
توفر للدولة العميقة شرعية جديدة) وبين منظومة الاستعمار الداخلي (باعتبارها
النواة الصلبة للنظام وأداة ضرب الربيع العربي وإفشال أي مشروع ديمقراطي يقوم على
الاعتراف بالإرادة الشعبية وممثليها).
ولذلك
كله، فإنه لا شك عندنا في أن الصراع بين 24 تموز/ يوليو (الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة) و25 تموز/ يوليو (الديمقراطية المباشرة وإنهاء الحاجة للأحزاب) ليس صراعا بين مشروعين
للتأسيس لجمهورية ثانية، بقدر ما هو صراع بين مشروعين لإضفاء الشرعية على
الجمهورية الأولى لكن بمفردات مختلفة. فما دامت البورقيبية هي "الخطاب
الكبير" فإن كل الخطابات الإصلاحية والثورية ستظل مجرد خطابات وظيفية عاجزة
عن بناء مشروع حقيقي للتحرير الوطني بمعناه المزدوج: التحرر من منظومة الاستعمار
الداخلي في المستوى المحلي، وبناء مقومات السيادة لمواجهة القوى الخارجية
وإملاءاتها التي تنسف مفهوم الاستقلال ذاته.
x.com/adel_arabi21