قضايا وآراء

إلى أين تتجه الانتخابات الرئاسية التونسية؟

عادل بن عبد الله
"أمام خيار انتخابي منفتح على نتيجتين متناقضتين ولكنهما ممكنتين نظريا وواقعيا" - عربي21
"أمام خيار انتخابي منفتح على نتيجتين متناقضتين ولكنهما ممكنتين نظريا وواقعيا" - عربي21
في انتظار إعلان مجلس "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في تونس عن القائمة الأولية للمقبولين يوم الأحد المقبل، بلغ عدد الملفات التي وصلت إلى الهيئة -بعد أن تجاوز أغلبها كل التضييقات التشريعية والإدارية- 17 ملفا من جملة 114 ملفا قام أصحابها بسحب استمارات التزكية الشعبية. وإثر الإعلان المرتقب عن القائمة النهائية الأولية للملفات المقبولة سيمر المترشحون إلى مرحلة ثانية من الفرز "القضائي" أمام المحكمة الإدارية في طوريها الابتدائي والاستئنافي. وستُعلن هيئة الانتخابات يوم 4 أيلول/ سبتمبر -بعد استكمال مرحلة الطعون- عن القائمة النهائية للمترشحين الذين سينافسون الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيد على رئاسة تونس، يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر القادم.

من الناحية القانونية الصرفة، توجد أمام أنظار الهيئة العديد من الملفات التي ستسقط لعدم استيفائها الشروط، كعدم حصول أصحابها على البطاقة عدد 3 (بطاقة السوابق العدلية)، أو عدم اكتمال عدد التزكيات المطلوبة، أو وجود قضايا منشورة في حق أصحابها، أو صدور أحكام قضائية ضد بعضهم مما يمنعهم من الترشح مدى الحياة. وهي وضعية ستضيف العديد من المترشحين الجديين (مثل السادة عماد الدايمي وعبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وهشام المدب، وغيرهم من الشخصيات المحسوبة على المعارضة الجذرية أو على المنظومة القديمة) من السباق الانتخابي، مما يجعل التنافس ينحصر مبدئيا -في انتظار صدور القائمة النهائية- بين الرئيس وموالاته النقدية من جهة، وبين بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة برموزها الحزبية أو المستقلة.

الانتخابات -بصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للمسار الانتخابي برمته- ستكون إما تفويضا شعبيا جديدا للرئيس كي يستكمل مشروعه السياسي (الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي وإنهاء الحاجة للأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها)، وإما أن تكون إنهاء لذلك التفويض والدفع بالفلسفة السياسية لتصحيح المسار إلى هامش التاريخ

ولكنّ هذه القسمة التي تنبني على موقف المترشحين من إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 وعلى اختلاف توصيفاتهم لها دستوريا (هل هي مؤسسة على قراءة ما فوق دستورية أم هي انقلاب على الدستور) سرعان ما تتداعى إذا ما انتقلنا إلى الموقف من سياسات "تصحيح المسار" وخياراته الكبرى، خاصة فيما يتعلق بالاستهداف المُمنهج للأجسام الوسيطة وللمؤسسات الدستورية وغير الدستورية، وكذلك التضييقات المتعددة على مكونات المجتمع المدني وعلى العمل النقابي وحرية الإعلام.

فنحن سنجد أنفسنا هنا أمام قسمة ثانية تقوم على التقابل بين الرئيس وجميع المترشحين، بمن فيهم أولئك الذين شكلوا حزامه السياسي وآلته الدعائية قبل إعلان الإجراءات وبعدها. وهو ما يعني "نظريا" أن الانتخابات -بصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للمسار الانتخابي برمته- ستكون إما تفويضا شعبيا جديدا للرئيس كي يستكمل مشروعه السياسي (الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي وإنهاء الحاجة للأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها)، وإما أن تكون إنهاء لذلك التفويض والدفع بالفلسفة السياسية لتصحيح المسار إلى هامش التاريخ.

لو أردنا التعمق أكثر في الحكم الوارد أعلاه (أي تقابل الرئيس مع سائر منافسيه بلا استثناء)، فإننا سنحتاج إلى إدخال بعض التعديلات عليه كي يكون أكثر تطابقا مع التاريخ والواقع على حد سواء، ولذلك قدمنا لهذا التخصيص بمفردة "نظريا" لوصف التقابل بين الرئيس والعديد من منافسيه. فالمترشحون المنتمون إلى أحزاب الموالاة النقدية أو المعارضة الخطابية (مثل حركة الشعب والوطد) لا يمكن أن يكونوا في وضع تقابل تضاد حقيقي مع الرئيس، فهؤلاء هم من مهد الطريق لـ25 تموز/ يوليو 2021، وهم من اعترفوا بشرعيته منذ ساعاته الأولى، وهم أيضا من يشتركون مع الرئيس- إلى زمن قريب- في رفض العودة إلى دستور 2014 وإلى النظام البرلماني المعدل.

فهل يعكس تغير موقفهم من الرئيس تغيرا موازيا في وعيهم السياسي؟ بل هل يعكس أي نقد ذاتي لمكبوتاتهم الأيديولوجية ورهاناتهم الهوياتية التي أفسدت مسار الانتقال الديمقراطي؟ وكيف يمكن الثقة في وعود تطلقها شخصيات لم تأخذ مسافة جزئية من تصحيح المسار إلا بعد أن ذهب خراجه لغيرهم فكانت مغارمهم منه دون مغانمهم؟ بل كيف يمكن الثقة فيمن تناقضه الثانوي -إلى حد الآن- هو مع الرئيس ومشروعه والمحور الإقليمي الذي يدعمه، وتناقضه الرئيس مع حركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ومع الإرادة الشعبية التي دفعت بهم إلى مركز الحقل السياسي من جهة ثانية؟

كيف يمكن الثقة فيمن تناقضه الثانوي -إلى حد الآن- هو مع الرئيس ومشروعه والمحور الإقليمي الذي يدعمه، وتناقضه الرئيس مع حركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ومع الإرادة الشعبية التي دفعت بهم إلى مركز الحقل السياسي من جهة ثانية؟

إن الإجابة عن الأسئلة السابقة ستكون محددا مركزيا في نوايا التصويت. فإذا كانت القاعدة الانتخابية الصلبة للرئيس لا تتجاوز العشرة في المائة من مجموع الناخبين المسجلين، فإن هؤلاء المترشحين يشتركون مع الرئيس في القاعدة الانتخابية ذاتها، بل يشكلون نواتها الأيديولوجية وآلتها الدعائية. وقد يكون من العسير عليهم أن يعولوا على دعم القواعد الانتخابية لباقي المترشحين المرفوضين في القائمة الأولية رغم تقديم مطالبهم للهيئة، وسيكون من شبه المحال أن يستفيدوا من قواعد المترشحين المقبولين والذين سيغادون السباق الانتخابي من الدور الأول (تحديدا أولئك المعارضين لتصحيح المسار معارضة جذرية)، وهو ما يعني محدودية حظوظ "الموالاة النقدية" في تجاوز الدور الأول مهما كانت أسماء الذين ستعلن هيئة الانتخابات عن قبولهم النهائي لخوض الانتخابات الرئاسية.

في صورة عدم حصول مفاجآت أثناء عملية الفرز الأولي للترشحات ومن بعدها مرحلة تقديم الطعون في طوريها الابتدائي والاستئنافي، يبدو أن التنافس سيكون أساسا بين الرئيس المنتهية ولايته وبين المرشح المستقل الدكتور ذاكر الأهيذب. ونحن لا نبني هذا الحكم على منطق الرغبة أو التشهّي، بل هو حكم مبني على استقراء في سير المترشحين الجديين ومواقفهم قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده، وكذلك على التوجه العام الرافض لسياسات تصحيح المسار المصحوبة بتزايد نسب الفقر والمديونية والتضخم. فإذا ما سلّمنا بمحدودية القاعدة الانتخابية للرئيس ولرموز الموالاة النقدية، فإن بقية القواعد الانتخابية التي تشترك في النقد الجذري لتصحيح المسار لن تجد مرشحا أفضل من الدكتور الأهيذب.

فرغم كل الاحترازات الموجهة ضده (كانتمائه السابق للتيار الديمقراطي المتهم بالتمهيد لإجراءات 25 يوليو صحبة حركة الشعب وورثة التجمع المنحل، والمغذي للصرعات السياسية على أساس الهوية الأيديولوجية في إطار تقاربه مع اليسار الوظيفي)، فإن استقالة المرشح ذاكر الأهيذب من التيار بسبب الموقف من المساواة في الميراث وكذلك الاقتراب الخطير مع مكونات اليسار الوظيفي، تجعل من هذا الاحتراز غير ذي معنى.

ولعل أعظم ما يُقوّي من فرص هذا المرشح في منافسة الرئيس -إن لم يُستبعد من القائمة النهائية- هو أنه متخفف من الأيديولوجيات النسقية وصراعات الهوية القاتلة، وهو مثال ناجح للتونسي "السوي"، أي ذاك الشخص الذي استفاد من المدرسة العمومية باعتبارها مصعدا اجتماعيا، وحافظ على علاقة متوازنة بين الموروث الديني المستنير والفلسفة الحداثية التي لا تتحرك في أفق الاستئصال والتغريب وتكريس التبعية والتخلف ونموذج الدولة الريعية. كما أنه رغم انتمائه إلى أصول جهوية غير تلك التي ينحدر منها أغلب السياسيين منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، فإنه لا يتبنى أي خطاب جهوي مضاد، وهو ما يعني قدرته على التجميع وعلى تقديم رسائل طمأنة لعموم المواطنين بعيدا عن الصراعات الأيديولوجية أو الجهوية والفئوية.

إما أن يقتنع عموم المواطنين بضرورة التجاوز الجدلي لما قبل 25 تموز/ يوليو وما بعده -أي المحافظة على ما فيهما من إيجابيات دون السلبيات- فيسندون هذا المترشح أو من يرون فيه القدرة على التجميع بعيدا عن الخطابات الشعبوية والنزعات الاستئصالية، وإما أن تتواصل سطوة العقل السياسي "الهوياتي" المؤدلج والمتلاعب به من لدن الآلة الدعائية لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين

ولكنّ كل هذه "الخصال" ستكون أمام تحديين كبيرين؛ أولهما لا سلطة له عليه (القبول أو الرفض النهائي)، أما التحدي الثاني فهو موكول إلى قدرة فريق حملته الانتخابية على تقديم برنامج معقول والنجاح في السياسة التواصلية بتقديم مواقف واضحة ولا تقبل اللبس في المسائل الخلافية في المستوى السياسي (الموقف من دستور 2014 ومن طبيعة النظام السياسي، والموقف من الصراعات الهوياتية، والموقف من إصلاح السلطات وأجهزة الدولة والإعلام والمجتمع المدني والعمل النقابي.. الخ)، مع احترام الناخب ومواجهته بحقيقة الوضع وطبيعة الممكنات وما قد تستلزمه من تضحيات ومن تنازلات فردية وجماعية في إطار سلطة شفافة وخاضعة للمراقبة والمساءلة.

إننا أمام خيار انتخابي منفتح على نتيجتين متناقضتين ولكنهما ممكنتين نظريا وواقعيا: إما أن يقتنع عموم المواطنين بضرورة التجاوز الجدلي لما قبل 25 تموز/ يوليو وما بعده -أي المحافظة على ما فيهما من إيجابيات دون السلبيات- فيسندون هذا المترشح أو من يرون فيه القدرة على التجميع بعيدا عن الخطابات الشعبوية والنزعات الاستئصالية، وإما أن تتواصل سطوة العقل السياسي "الهوياتي" المؤدلج والمتلاعب به من لدن الآلة الدعائية لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين، فتكون نتائج الانتخابات القادمة -مهما كان الفائز من أنصار تصحيح المسار وموالاته النقدية- معبرا لمرحلة جديدة من مراحل الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي، مع ما يعنيه ذلك من سيناريوهات كارثية في مستوى المؤشرات الاقتصادية والحريات الفردية والجماعية، بل في مستوى السلم الاجتماعية المهددة بمركزة السلطة وغياب منطق الشراكة وعجز النخب عن بناء المشروع الوطني الجامع دون إقصاء على أساس الهوية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)