قضايا وآراء

في العلاقة بين "تصحيح المسار" والمجتمع المدني التونسي

عادل بن عبد الله
"منافس جديد للعائلة الديمقراطية التي كانت تحتكر العمل الجمعياتي والديكور الديمقراطي زمن الاستبداد"- جيتي
"منافس جديد للعائلة الديمقراطية التي كانت تحتكر العمل الجمعياتي والديكور الديمقراطي زمن الاستبداد"- جيتي
إن طرح مسألة العلاقة بين سردية تصحيح المسار؛ باعتبارها أيديولوجيا السلطة أو التأسيس الجديد منذ 25 تموز/ يوليو 2011، وبين "المجتمع المدني"؛ باعتباره فاعلا جماعيا أو قطاعا قائما بذاته ومستقلا عن السلطة والمعارضة، على الأقل في المستوى النظري، هو طرح يستدعي اتخاذ مسافة موضوعية من سرديتي طرفي الإشكال. فاختزال العلاقة بينهما في التضييق على المجتمع المدني، أو محاولة تدجينه واستلحاقه بالسلطة (كما تقول بعض التقارير المحلية والأجنبية)، لا يختلف في شيء عن اختزال تلك العلاقة في الدور المشبوه للجمعيات، أو في علاقتها بالفساد الداخلي وبالدوائر الاستعمارية (كما يقول أنصار السردية الرسمية).

ونحن نعني بالاختزال هنا، أنّ النسقين الحجاجيين المتنازعين يمتلكان نصيبا من الحقيقة، ولكنهما تحرصان على حجب ما في سرديتهما من تناقضات داخلية، ومن رهانات ومصالح فردية وجماعية يتم الدفاع عنها؛ باعتبارها "مصلحة وطنية عليا".

ونحن لا نطرح على أنفسنا في هذا المقال أن ندافع عن حجج السلطة أو حجج ممثلي المجتمع المدني، بل إن ما نطرحه هو محاولة الإجابة على سؤالين، أو على الأقل تقديم أفكار تساعد على الإجابة عليهما: لماذا ساندت أغلب مكونات المجتمع المدني "تصحيح المسار" رغم موقفه المعروف من الديمقراطية التمثيلية ومن الأجسام الوسيطة المهيمنة عليها؟ وأي دور للمجتمع المدني، بمفهومه داخل الديمقراطية التمثيلية وبدوره خلال عشرية الانتقال الدمقراطي، أو ما يسميه أنصار تصحيح المسار بـ"العشرية السوداء"، في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، وتحديدا في مرحلة "العبور" إلى "التشييد والبناء"، في ظل ما يُسميه الرئيس بالثورتين الثقافية والتشريعية؟

لماذا ساندت أغلب مكونات المجتمع المدني "تصحيح المسار" رغم موقفه المعروف من الديمقراطية التمثيلية ومن الأجسام الوسيطة المهيمنة عليها؟ وأي دور للمجتمع المدني، بمفهومه داخل الديمقراطية التمثيلية وبدوره خلال عشرية الانتقال الدمقراطي، أو ما يسميه أنصار تصحيح المسار بـ"العشرية السوداء"، في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، وتحديدا في مرحلة "العبور" إلى "التشييد والبناء"، في ظل ما يُسميه الرئيس بالثورتين الثقافية والتشريعية؟

بصرف النظر عن الاختلافات النظرية في تعريف المجتمع المدني والتأريخ له في الغرب أو في تونس، (خاصة من جهة علاقته بالسلطة ودوره في خدمتها أو معارضتها)، فإن مجرد اختيار "المدني" لتعريف هذا القطاع القام بذاته، الذي هو "شريك مهم لمؤازرة المجهود الوطني، الرامي إلى تجذير قيم المواطنة وتأمين انخراط مختلف الشرائح الاجتماعية في المسار الديمقراطي والتنموي؛ باعتباره قوة تعديلية تتوسل بالطرق السلمية المدنية" -كما تعرفه مجموعة العمل حول فضاء المجتمع المدني سنة 2023-، يؤكد أنّ هذا القطاع هو أداة من أدوات "التمدين" بالمعنى الليبرالي الغربي للكلمة. فهو ليس "مجتمعا أهليّا" ينبثق من احتياجات الأهالي ومن البنى الذهنية والموضوعية السائدة، بل هو مجتمع هدفه الأساسي أن يساهم في "تمدين المجتمع" ،عبر نشر قيم "المواطنة"، (وهي قيم يراد لها أن تتجاوز التّضامنات التقليدية ذات الجذر الديني أو العشائري أو المناطقي).

إن نشر تلك القيم من منظور "تنويري"، يؤسس للمسار الديمقراطي والتنموي على قاعدة العلمانية أو اللائكية الفرنسية -كما هو الشأن في تونس-، جعل أغلب مكونات المجتمع المدني تتموضع بالضرورة ضد "الإسلام السياسي"، ومن ثم ضد الانتقال الديمقراطي الذي تحتل فيه حركة النهضة موقعا مركزيا. ورغم احتفاء أغلب مكونات المجتمع المدني بالمرسوم 88 الصادر سنة 2011 عن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة؛ باعتباره أحد "أفضل أحد أفضل عشرة قوانين جمعياتية في العالم، لتطابقه مع جميع المعايير الدولية للجمعيات، من حيث التكوين والتسيير وضمان الرقابة الفعلية على عمل الجمعيات وضمانات الشفافية المالية والإدارية"، فإنّ هذا المرسوم قد أدخل الإسلاميين للعمل الجمعياتي، وحوّلهم إلى منافس جديد "للعائلة الديمقراطية" التي كانت تحتكر العمل الجمعياتي والديكور الديمقراطي زمن الاستبداد، في ظل توافقات صريحة أو خفية مع السلطة.

لم يكن الانكسار البنيوي للحقل الاستبدادي -أي دخول الإسلاميين فاعلا قانونيا ومعترفا به- يعني فقط تهديد مواقع "العائلة الديمقراطية" سياسيّا، بل كان يمثل تهديدا وجوديّا لتلك العائلة في المجتمع المدني أيضا. وهو ما حرص "الديمقراطيون" في المجتمع المدني على صياغته صياغة جامعة، بمحاولة الربط بين جميع الإسلاميين والإرهاب، أو الربط بينهم وبين تهديد مكاسب المرأة والحريات الخاصة والعامة، أي تهديد "النمط المجتمعي التونسي".

ورغم أن قانون الانتخابات ومرسوم الأحزاب يمنعان التداخل بين الجمعيات والأحزاب، فإن سيطرة "الديمقراطيين" (خاصة الوطد، أي مكونات العائلة الوطنية الديمقراطية) على أهم مكونات النسيج الجمعياتي؛ قد جعل منها أكبر ظهير للأحزاب "الديمقراطية" في صراعها ضد الإسلاميين بصفة عامة، وضد حركة النهضة بصفة خاصة، بل حولها إلى أداة من أدوات المنظومة القديمة في استراتيجية إعادة التموقع والانتشار، بعد "تطبيع" العائلة الديمقراطية مع ورثتها ورموزها، بدءا من المرحوم الباجي قائد السبسي وحركة نداء تونس.

لقد كان "المجتمع المدني" فاعلا سياسيا ذا وزن في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وكان من الصعب تمييز مواقفه عن مواقف الفاعلين السياسيين في" العائلة الديمقراطية". ولذلك لا غرابة في أن نجد أن المجتمع المدني (بمكوناته النقابية والحقوقية.. إلخ) قد سارع إلى مساندة "تصحيح المسار"، خاصة في مراحله الأولى. ولأن "العقل المدني" لم يكن يختلف عن "العقل السياسي" لدى "الديمقراطيين" من جهة القصور الاستراتيجي، فإن أغلب "القوى الديمقراطية" لم تر في "تصحيح المسار"، إلا ما يحقق الإشباع النفسي (التخلص من حركة النهضة ومن النظام البرلماني المعدل)، وكانت عاجزة عن رؤية ما يعنيه ذلك في مستوى الديمقراطية التمثيلية برمتها، وتحديدا في دور "الأجسام الوسيطة" في سردية تصحيح المسار وفي النظام الرئاسوي.

إن فهم موقف الرئيس من المجتمع المدني، يستدعي بالضرورة العودة إلى الأسس النظرية للسردية السلطوية. فالنظام الحالي لم يُخفِ يوما موقفه السلبي من "الأجسام الوسيطة" التي تهيمن على الديمقراطية التمثيلية، بما في ذلك مكونات المجتمع المدني. فهذه الأجسام جميعا لا تنبثق عن الإرادة الشعبية الحقيقية (أي غير المتلاعب بها من طرف من يسميهم بالفاسدين والعملاء والخونة)، وهي من ثم لا تخدم الصالح العام بقدر ما تخدم منظومة الفساد ومن يقف وراءها، أي الصهيونية والماسونية وغيرها في الدوائر الاستعمارية.

ولأن الرئيس يعد نفسه الممثل الشرعي والأوحد للإرادة الشعبية الحرة -مهما كانت نسبة التأييد الشعبي التي تعكسها الاستحقاقات الانتخابية-، فإن المجتمع المدني نفسه يجب أن يخضع للإرادة الشعبية التي يمثلها الرئيس دون غيره. ورغم أن ثلثي التونسيين يثقون في المجتمع المدني، ورغم أن نسبة 26.5 في المائة فقط في المائة من المشاركين في الاستشارة الوطنية لسنة 2022 يرون ضرورة تعديل قانون الجمعيات، ذلك القانون الذي اعتبره المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الجمعيات "موروث الثورة التونسية"، فإن ذلك كله لم يمنع رئاسة الجمهورية من تقديم مقترح لتعديل المرسوم المنظم لعمل الجمعيات.

مهما كان موقفنا من النظام الحالي ومن أهدافه السياسية التي تقف وراء تعديل الإطار التشريعي للعمل الجمعياتي، فإن علاقة المجتمع المدني بالأحزاب وبالتمويلات الخارجية، تظل مسألة "مشبوهة" أو في الحد الأدنى ملتبسة عند عموم التونسيين، خاصة بعد الثورة.

رغم تفهمنا للمخاوف الصادرة من بعض مكونات المجتمع المدني، فإننا نعد أن تعديل المرسوم 88 هو أمر حتمي؛ باعتباره جزءا مما يسميه الرئيس بالثورة الثقافية والثورة التشريعية. ونحن نعني بالحتمية هنا، أن سردية تصحيح المسار (في ظل الديمقراطية المباشرة أو القاعدية، وفي ظل ما يسميه الرئيس بـ"حرب التحرير الوطني")، لا يمكن أن تقبل بتحول المجتمع المدني إلى قاعدة خلفية للأحزاب أو للتدخلات الخارجية المناوئة لسياسات الدولة وخياراتها.

ومهما كان موقفنا من النظام الحالي ومن أهدافه السياسية التي تقف وراء تعديل الإطار التشريعي للعمل الجمعياتي، فإن علاقة المجتمع المدني بالأحزاب وبالتمويلات الخارجية، تظل مسألة "مشبوهة" أو في الحد الأدنى ملتبسة عند عموم التونسيين، خاصة بعد الثورة. فإذا كان المجتمع المدني مجرد ملحق وظيفي بالسلطة، أو جزءا من الديكور الديمقراطي زمن الاستبداد، فإن أهم مكوناته الحقوقية والإعلامية والثقافية قد تحوّلت بعد الثورة إلى ملحق وظيفي بـ"الثورة المضادة" وقاطرتها في "العائلة الديمقراطية". وهو ما جعل من علة وجودها "نظريّا" (أي خدمة الديمقراطية والتنمية وتكريس قيم المواطنة دون تمييز)، مجرد مجاز لا حقيقة تحته.

ولعل في أداء الإعلام العمومي والخاص زمن الانتقال الديمقراطي ودوره في تزييف الوعي وتبييض الفاسدين، وفي سردية "الدور الوطني للاتحاد" وما سببته من إفساد للسياسة والاقتصاد، وكذلك في المواقف المؤدلجة للرابطة التونسية لحقوق الإنسان ودورها في تجذير الانقسام المجتمعي على أساس الهوية؛ ما يُغني عن التفصيل، بل إن في ذلك كله ما يساعد على فهم القابلية المجتمعية الواسعة لأي مقاربة سلطوية مختلفة تجاه "المجتمع المدني"، خاصة تجاه مكوناته النقابية والإعلامية والحقوقية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie