قضايا وآراء

سردية "الخطر الجاثم" في تونس: الحدود والآفاق

عادل بن عبد الله
"اعتبر الرئيس شرعية البرلمان "شرعية وهمية" وانتقد التضخم التشريعي"- جيتي
"اعتبر الرئيس شرعية البرلمان "شرعية وهمية" وانتقد التضخم التشريعي"- جيتي
مهما كان موقفنا من التأويل الرئاسي للفصل 80 من الدستور، فإن تفعيل هذا الفصل يوم 25 تموز/ يوليو 2021 قد مثّل لحظة مفصلية في التاريخ السياسي للبلاد. فسواء أكان هذا التفعيل انقلابا على دستور 2014 -كما يقول المعارضون- أم كان تأويلا ما فوق دستوري-كما يقول أنصار تصحيح المسار- فإنّ "ميراث" المسار المتعثر للانتقال الديمقراطي من جهة أولى، وطبيعة المشروع السياسي للرئيس من جهة ثانية قد نقلا حالة الاستثناء من الوضع المؤقت الموجه نحو "إعادة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال" إلى المرحلة الانتقالية الموجهة نحو "التأسيس الجديد". ولم يكن ذلك ممكنا إلا في إطار سردية سياسية ترى أن "الخطر الداهم" المذكور في الدستور هو مجرد أثر منبثق من خطر أعمق سمّاه الرئيس في بعض تصريحاته بـ"الخطر الجاثم"، وهو ما يعني واقعيا عدم وجود علاقة تلازمية أو شرطية بين "إعادة السير العادي لدواليب الدولة"؛ وبين إعادة منظومة الحكم التي يرى الرئيس أنها قد "خانت الأمانة" وتلاعبت بوعي المواطنين وبأقواتهم.

وسنحاول في هذا المقال أن نتدبر معنى "الخطر الجاثم" في السردية السياسية لتصحيح المسار، وكذلك حدود هذا المعنى وآفاقه فيما يُسميه الرئيس بـ"حرب التحرير الوطني".

رغم أن العديد من المعارضين -خاصة في الموالاة النقدية- يؤرخون لما يسمونه بالانحراف السلطوي (أي كسر أفق انتظارهم من تصحيح المسار باعتباره إخراجا للنهضة من مركز الحياة السياسية وتقاسم للسلطة مع الرئيس في إطار نظام رئاسي) بالأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021، فإن هذه الأطروحة لا تصلح إلا للتأريخ لبؤس تلك المعارضة وغلبة منطق الرغبة على مواقفها، بل قد تكون حجة على صوابية موقف الرئيس منها ومن انتهازيتها، فمنذ إعلان "الإجراءات"، كان الرئيس قيس سعيد واضحا في موقفه من الديمقراطية التمثيلية بمؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة.

إننا أمام سردية سياسية تطرح نفسها بديلا للديمقراطية التمثيلية، وتطرح مشروعها السياسي باعتباره لحظة "فرز تاريخي بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب" انطلاقا من التسوية بين الخطرين الداهم والجاثم. فالخطر الداهم ليس مجرد حدث عابر ومؤقت، إنه في جوهره خطر جاثم لا يمكن التخلص منه بالتسويات السياسية وبـ"الحوار الوطني" وبمنطق الشراكة، بل يستدعي بديلا سياسيا شاملا ينهي الحاجة للديمقراطية التمثيلية

ومنذ شهر آب/ أغسطس 2021 أعلن رئيس الدولة أن "الخطر الداهم هو خطر جاثم، فالمؤسسات السياسية وبالشكل الذي كانت تعمل به هي خطر جاثم على الدولة، وليس داهما كما جاء في الفصل 80 من الدستور أو الفصل 46 من دستور 1959، فالبرلمان نفسه خطر على الدولة"، وأعلن رفضه لما يسمّى بـ"الحوار الوطني" لغياب من يستحق المحاورة (الحوار مع من؟)، وهو خيار سياسي استراتيجي سيستدعي بالضرورة ثالثة الأثافي في "تصحيح المسار": "لا مجال مرة أخرى للرجوع إلى الوراء".

إن التسوية بين الخطر الداهم والخطر الجاثم ليست مجرد عملية بيانية، فهي أداة ضرورية للفصل بين إنقاذ الدولة ومؤسساتها وبين "المؤسسات السياسية" التي هيمنت على الحكم بعد الثورة، خاصة البرلمان والأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء. وإذا كنا نستطيع أن نفهم موقف الرئيس من البرلمان في ظل النظام البرلماني المعدّل، حيث يكون مجلس النواب هو مركز السلطة (أي مركز الفساد حسب سردية تصحيح المسار)، فإن من حقنا أن نتساءل كيف يكون البرلمان خطرا جاثما في النظام الرئاسي الذي كرسه دستور 1959؟

إن الربط بين "دستور الثورة" و"دستور الاستقلال" في توصيف البرلمان باعتباره خطرا جاثما يعكس موقفا نقديا من البرلمان ذاته في ظل الديمقراطية التمثيلية، وما يحكمها من آليات ومؤسسات سواء في النظام الرئاسي أو في النظام البرلماني المعدّل. إننا أمام نقد جذري للديمقراطية التمثيلية ذاتها، وهو نقد لم يكن الرئيس يخفيه منذ حملته الرئاسية سنة 2019 عندما طرح تأسيسا جديدا يكون في ظل الديمقراطية المباشرة أو المجالسية.

عندما اعتبر الرئيس شرعية البرلمان "شرعية وهمية" وانتقد التضخم التشريعي الذي لا علاقة له بانتظارات المواطنين بسبب ارتباطه بنيويا بالمال الفاسد وبالصفقات السياسية المشبوهة، فإنه لا يطعن فقط في الممارسات السياسية للأحزاب و"عديد الأطراف التي تتعامل معهم"، بل هو ينزع الشرعية عن البرلمان ذاته وما يحكمه من فلسفة سياسية في ظل الليبرالية الاقتصادية.

فالفساد السياسي والاقتصادي هو سمة ملازمة للبرلمان مهما كان شكل النظام السياسي في ظل الديمقراطية التمثيلية، ولذلك فإن الخصم الأصلي لخيار اللاعودة إلى الوراء ومقابله الفكري سيكون هو الديمقراطية التمثيلية، أما مؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة فإنها مقابله الموضوعي وخصمه بالتبعية. وهو ما لم يفهمه دعاة الحوار الوطني والموالاة النقدية، ولم يفهمه أيضا من يعتبرون أنفسهم "معارضة جذرية"، فكل هؤلاء -حسب سردية تصحيح المسار- هم جزء من الوراء/الماضي، ولا يمكن أن يكونوا جزءا من التأسيس/المستقبل.

إننا أمام سردية سياسية تطرح نفسها بديلا للديمقراطية التمثيلية، وتطرح مشروعها السياسي باعتباره لحظة "فرز تاريخي بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب" انطلاقا من التسوية بين الخطرين الداهم والجاثم. فالخطر الداهم ليس مجرد حدث عابر ومؤقت، إنه في جوهره خطر جاثم لا يمكن التخلص منه بالتسويات السياسية وبـ"الحوار الوطني" وبمنطق الشراكة، بل يستدعي بديلا سياسيا شاملا ينهي الحاجة للديمقراطية التمثيلية ذاتها.

شيطنة كل من يرفض منطق الولاء المطلق أو كل من يتخذ مسافة نقدية من النظام وخياراته؛ ستنحرف بـ"حرب التحرير الوطني" عن أهدافها الاستراتيجية لأنها ستضعف الجبهة الداخلية وستخلل القاعدة الأخلاقية لهذه الحرب باعتبارها صراعا "بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب"

ورغم أن الخطاب الرسمي لا يُصرح بأنّ الديمقراطية التمثيلية هي عدوه الأساسي في "حرب التحرير الوطني"، فإن المنطق الداخلي لسردية تصحيح المسار يجعل هذا الاستنتاج منطقيا. فالفساد الاقتصادي أو الإداري أو حتى الأخلاقي هو فساد بنيوي يتعامد وظيفيا مع الفساد السياسي، ولا يمكن -حسب المنطق الكامن في تصحيح المسار- أن نواجه أشكال الفساد المجتمعي إلا بضرب واجهاتها الحزبية ومؤسساتها السياسية، أي بإلغاء الحاجة إلى الأحزاب ومراجعة معنى استقلالية الأجسام الوسيطة حتى داخل المجتمع المدني.

حسب سردية تصحيح المسار، فإن "الاستقلالية" عن أجهزة الدولة أو اتخاذ مسافة نقدية من نظام الحكم لا تعني بالضرورة استقلالية عن "الغرف المظلمة" في الداخل أو عن مراكز القرار الأجنبية، بل قد يكون مطلب الاستقلالية مجرد غطاء لتنفيذ أجندات تتحرك بالضرورة ضد "حرب التحرير الوطني". ورغم وجود شواهد كثيرة على أنّ "الاستقلالية" هي مجرد مجاز يخفي وراءه حقائق لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية، فإن تعميم هذا الحكم أو "تسييسه" تفقده الكثير من مصداقيته.

فشيطنة كل من يرفض منطق الولاء المطلق أو كل من يتخذ مسافة نقدية من النظام وخياراته؛ ستنحرف بـ"حرب التحرير الوطني" عن أهدافها الاستراتيجية لأنها ستضعف الجبهة الداخلية وستخلل القاعدة الأخلاقية لهذه الحرب باعتبارها صراعا "بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب". وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، بل في ظل عدم إرساء تلك المحكمة بقانون يضمن استقلالها عن السلطة التنفيذية، فإن الثنائيات الأخلاقية غير المتكافئة (الحق/الباطل؛ الصدق/الكذب) قد تتحوّل إلى مفاهيم سلطوية تحكّمية لا ضابط لها، وهو ما يعني أن "حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى جهة تحكيمية ذات مصداقية تمنع انحراف السلطة.

إذا كانت الديمقراطية التمثيلية بمؤسساتها السياسية وأجسامها الوسيطة هي جذر الخطر الجاثم على الدولة حسب تصحيح المسار، فإن على الديمقراطية المباشرة أن تثبت أنها ليست خطرا جاثما جديدا، أو مجرد واجهة مختلفة لمنظومة الاستعمار الداخلي. فـ"حرب التحرير الوطني" هي حرب مشروعة، ولكن لا يكفي لتأكيد مشروعيتها أن تدعيَ أنها تحارب "الباطل" و"الكذب" اللذين تجمّعا في "البرلمان" بتشريعاته وبالعلاقات المشبوهة داخليا وخارجيا لنوابه وأحزابه.


إن "حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى الذهاب بالتسوية بين الخطرين الداهم والجاثم إلى نهاياتها المنطقية، ونحن نذهب إلى أن "تصحيح المسار" لم يدفع بعملية "التأسيس الثوري الجديد" إلى حيث ينبغي أن يصل. ونحن نقصد بذلك أن اعتبار البرلمان -أو الديمقراطية التمثيلية كلها- خطرا جاثما على الدولة هو قطع لنصف الطريق في التأسيس لمشروع التحرير الوطني،
"حرب التحرير الوطني" تحتاج إلى الذهاب بالتسوية بين الخطرين الداهم والجاثم إلى نهاياتها المنطقية، ونحن نذهب إلى أن "تصحيح المسار" لم يدفع بعملية "التأسيس الثوري الجديد" إلى حيث ينبغي أن يصل
أما النصف الباقي فقد أشار إليه الرئيس في بعض تصريحاته عندما تحدث عن العائلات الأربعين التي تتحكم في الاقتصاد الوطني بفضل خيارات "دولة الاستقلال" ومشروع "التحديث".

ختاما، لا شك عندنا في أن مواجهة "عائلات الاقتصاد الريعي" -وما يرتبط بها من لوبيات داخلية ومصالح أجنبية في المستويين المادي والرمزي- هي مهمة لا تتعارض مع مشروع تصحيح المسار، بل هي عندنا علة وجوده ذاتها على الأقل في المستوى الخطابي. ولكن تلك المواجهة لا يمكن أن تكون فعّالة إذا ما انحصرت في المستوى "الناعم" وغير المباشر (الاقتصاد التضامني والشركات الأهلية) أو بقيت في مستوى المواجهة الموضعية والجزئية (الصلح الجزائي).

فتفكيك منظومة الاستعمار الداخلي يحتاج إلى قرارات "تاريخية" في مستوى التشريعات، ولكن تلك التشريعات لا ينبغي أن تنحصر في البعدين الاقتصادي أو السياسي، بل يجب أن تكون محكومة بمشروع شامل لبناء المشترك المواطني ومقومات السيادة الحقيقية. وهو مشروع لا يمكن أن يستويَ على سوقه ما لم تسنده نظرة نقدية لكل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة ولخياراتها المجتمعية الكبرى في مرحلة الاستعمار غير المباشر، أي في مرحلة التحديث الزائف باعتباره أيديولوجيا تأبيد التبعية والتخلف بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)

خبر عاجل