قضايا وآراء

مقالةٌ في التناقضات الذاتية للسرديات المتنافسة على رئاسة تونس

عادل بن عبد الله
"يتحرك بمنطق "التفويض" أو "الوكالة" باعتبارهما تجسيدا لخيار شعبي مطلق ونهائي، أي تجسيدا لإرادة شعبية "سليمة" لا يمكنها أن تتغير إلا تحت تأثير "الغرف المظلمة" و"الخونة" و"المتآمرين"فيسبوك
"يتحرك بمنطق "التفويض" أو "الوكالة" باعتبارهما تجسيدا لخيار شعبي مطلق ونهائي، أي تجسيدا لإرادة شعبية "سليمة" لا يمكنها أن تتغير إلا تحت تأثير "الغرف المظلمة" و"الخونة" و"المتآمرين"فيسبوك
تنزيلا لبرنامجه الانتخابي الرافض لمسار الانتقال الديمقراطي بمؤسساته ومخرجاته وهندسته السياسية، وتفعيلا لمشروعه السياسي القائل بالتأسيس الجديد، استثمر الرئيس قيس سعيد واقع الإحباط الشعبي العام من النظام البرلماني المعدل وأجسامه الوسيطة؛ وفعّل الفصل الثمانين من الدستور التونسي والمتعلق بـ"حالة الاستثناء".

وقد أظهرت إجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو 2021 -ومن بعدها المراسيم والأوامر، خاصة الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021-، أنّ فهم الرئيس لمعنى "الخطر الداهم" ولمعنى "تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة"؛ ليس هو المعنى الدستوري الظاهر أو المعنى الذي ينتظره المواطن خالي الذهن من مشروع التأسيس الجديد، فهو معنى مرتبط بموقف نقدي جذري للديمقراطية التمثيلية وللنظام السياسي، مما آذن بتحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية، هدفها تأسيس جمهورية جديدة بدستورها ونظامها السياسي الرئاسي وديمقراطيتها المباشرة أو المجالسية.

أمام هذه الهندسة السلطوية المنفردة للحقل السياسي، وأمام واقع الاستهداف الممنهج لمؤسسات الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، وما نتج عنه من تعميق للأزمات السياسية الدورية بعد الثورة، أصبح من المشروع طرح سؤال التداول السلمي على السلطة بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في ظل "التأسيس الجديد" وما يسنده في المستوى النظري، أي فلسفة الديمقراطية المباشرة، فـ"تصحيح المسار" لا يطرح نفسه باعتباره لحظة من لحظات الانتقال الديمقراطي،
أمام هذه الهندسة السلطوية المنفردة للحقل السياسي، وأمام واقع الاستهداف الممنهج لمؤسسات الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، وما نتج عنه من تعميق للأزمات السياسية الدورية بعد الثورة، أصبح من المشروع طرح سؤال التداول السلمي على السلطة بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في ظل "التأسيس الجديد" وما يسنده في المستوى النظري، أي فلسفة الديمقراطية المباشرة.
ولا يتحرك بمنطق "الشريك"، بل بمنطق "البديل". إنه بداية مطلقة لا تشتغل على إعادة هندسة الواقع فقط، بل تطرح فلسفة سياسية جديدة تعيد صناعة الرمزيات والتواريخ والرهانات، ولكنها تفعل ذلك كله بصورة منفردة لا تشاركية فيها.

يتمثل التناقض الذاتي الأهم لـ"تصحيح المسار"، في أنه لا يجد شرعيته في الإرادة الشعبية (وإن كان لا ينفصل عنها)، بل هو يتحرك بمنطق "التفويض" أو "الوكالة"، باعتبارهما تجسيدا لخيار شعبي مطلق ونهائي، أي تجسيدا لإرادة شعبية "سليمة"، لا يمكنها أن تتغير إلا تحت تأثير "الغرف المظلمة" و"الخونة" و"المتآمرين". فتغير الإرادة الشعبية، وهو أمر مرتبط بمشروعية الأداء أو الإنجاز، وعكسته نسبة المشاركة المحدودة في كل المحطات التي شكلت خارطة الطريق لتصحيح المسار؛ مثل الاستشارة الوطنية حول التعليم والاستفتاء على الدستور وانتخابات غرفتي البرلمان، لم يؤثر في شيء على الخطاب الرسمي، سواء من جهة احتكاره لتمثيل الإرادة الشعبية، أو من جهة إصراره على عدم الاعتراف بالانقسام المجتمعي، وبشرعية الأجسام الممثلة لذلك الانقسام.

رغم الخلفية الحديثة لمشروع الديمقراطية المباشرة -باعتبارها شكلا من أشكال الفكر الماركسي كالشيوعية والاشتراكية-، فإن "تَونَسة" هذا المفهوم في "تصحيح المسار" جعلته يتحول إلى تركيبة نظرية "هجينة" (ولكنها تركيبة فعّالة من جهة تأثيرها الشعبي)؛ أساسها المزج بين المخيال الديني (مفهوم المهدي أو "المخلّص" الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا، وكذلك مفهوم القلة المصطفاة والكثرة الضالة التي تجعل منطق "الإرادة العامة" يفقد قيمته واقعيا)، وبين الطوبى السياسية الماركسية (انتفاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية باعتبارها الغطاء الأيديولوجي للخيارات اللاوطنية، وانتفاء الحاجة للأجسام الوسيطة باعتبارها أداة التشريع/التنفيذ لسياسات النهب والفساد والتبعية).

ولا شك عندنا في أنّ هذا المنطق السياسي "المهدوي"، سيجد نفسه في وضعية متناقضة عندما يقبل بوضع نفسه (وهو الذي يتمثل ذاته باعتباره حتمية تاريخية وعناية ربانية)، في وضعية التنافس مع خطابات سياسية تنتمي إلى زمن سياسي مختلف، بل تنتمي إلى زمن سياسي مفوّت وتتأسس شرعية "تصحيح المسار" على نفي الحاجة إليه.

من جهة المعارضة الجذرية لتصحيح المسار، فإن تناقضاتها الذاتية تعود في تقديرنا إلى عاملين مركزيين: المثالية والتشتت. فرغم وعي مكوّنات هذه المعارضة -على الأقل بعد ارتفاع اللبس عن مشروع "التأسيس الجديد"- بأن "تصحيح المسار" ليس مشروعا لتصحيح أخطاء الديمقراطية التمثيلية، وليس أيضا مشروعا لبناء الشراكة مع "العائلة الديمقراطية" وتقاسم الحكم معها، على أساس التقابل مع حركة النهضة والإسلام السياسي بصفة عامة، فإن هذا الوعي لم يكن في مستوى المخاطر الوجودية المهددة لكل الأجسام الوسيطة على حد سواء.

قوة الرئيس قيس سعيد -باعتباره مترشحا لعهدة ثانية-، لا تنحصر فقط في صلابة النقد الذي وجّهه للانتقال الديمقراطي وأجسامه الوسيطة، بل ترتبط أيضا بضعف المعارضة وتشتتها، ومثاليتها التي يمكن اعتبارها ضربا من الوعي السياسي البائس.

فتصحيح المسار لا يطرح على نفسه محاربة "مظاهر الفساد" فحسب، بل يطرح على نفسه مهمة أكثر راديكالية، ألا وهي محاربة "فلسفة الفساد" أو أسسه التي تتجاوز مستوى الأداء إلى مستوى الفلسفة السياسية ذاتها (الديمقراطية التمثيلية، النظام البرلماني المعدل، منطق التوافق والصفقات البرلمانية، اللامركزية ودورها في ضرب وحدة الدولة، مفهوم "السلطات" التي زيفت الإرادة الشعبية واستولت على مصدر الشرعية الأصلي الذي هو الشعب، تمويل الأحزاب وعلاقته بالمال السياسي، نفوذ اللوبيات العائلية والسرديات الأيديولوجية بصراعاتها الهوياتية القاتلة، الارتباط المشبوه بالخارج.. إلخ).

بصرف النظر عن حقيقة التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" ومنظومة الاستعمار الداخلي (الدولة العميقة) على الأقل في المستوى "التكتيكي"، (وهو ما يمثل امتدادا لخيارات الانتقال الديمقراطي ولا يُمثل قطيعة معها)، وبصرف النظر عن عجز النظام الحالي عن تحويل نواياه ووعوده إلى منجزات واقعية تكسبه مشروعية الأداء، فإن قوة الرئيس قيس سعيد -باعتباره مترشحا لعهدة ثانية-، لا تنحصر فقط في صلابة النقد الذي وجّهه للانتقال الديمقراطي وأجسامه الوسيطة، بل ترتبط أيضا بضعف المعارضة وتشتتها ومثاليتها، التي يمكن اعتبارها ضربا من الوعي السياسي البائس.

أمّا ضعف المعارضة، فهو معلوم لكل متتبع للشأن التونسي، وهو يتجلى أساسا في فقدانها لموقع المبادرة وعجزها عن تعديل سياسات السلطة، واكتفائها بمنطق رد الفعل دون أي قدرة على الفعل وتقديم البدائل المقبولة شعبيا. وأما التشتت، فهو عائد إلى تضخم الأنوات الفردية والجماعية، واستصحاب الخلافات البينية والصراعات الهوياتية التي حكمت فترة الانتقال الديمقراطي، مع ما يعكسه ذلك من عجز عن بناء خطاب مطابق للحظة الحالية، وما تحمله من مخاطر "وجودية" على كل الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية.

تتجلى مثالية المعارضة في أنها ما زالت تعتقد أن الرئيس قيس سعيد قد بنى جمهورية جديدة كي يُقدّمها لخصومه على طبق من ذهب. فالمعارضة التي لم تكن معنية بخارطة الطريق الرئاسية ومحطاتها المعروفة (كما يقول الرئيس منتقدا "لا مبدئيتها")، تظن أنها قادرة على جعل الانتخابات الرئاسية لحظة إنهاء "تصحيح المسار"، من حيث يريد لها الرئيس أن تكون مناسبة لتفويض شعبي جديد.
الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة انتخابية ثانية، وهي عُهدة لا ترتبط بمشروعية الأداء بقدر ارتباطها بفقدان الأجسام الوسيطة لأية شرعية مستأنفة، وعجزها إلى حدود هذه اللحظة عن تقديم بديل جامع، يستطيع منافسة سردية تصحيح المسار، وما يؤسسها من نقد جذري للديمقراطية التمثيلية.
ولا شك في أنّ هذا التفكير هو تفكير مثالي، ولا علاقة له بالواقعية السياسية وبموازين القوى، كما أنه لا شك في أن التفكير المعياري (نقد المعارضة للرئيس بمعايير الانتخابات النزيهة والشفافة حسب المقاييس الدولية ذات الخلفية الليبرالية)، هو مجرد عبث أو أحلام يقظة لا محصول تحتها، ولا يعكس في بنيته العميقة إلا منطق الرغبة لا منطق الواقع.

ختاما، قد يتفاجأ القارئ إذا ما قلنا بأن نتائج الانتخابات لن تكون مختلفة، حتى لو افترضنا جدلا أو اعتباطا مشاركة أبرز المساجين السياسيين فيها. ذلك أن أغلب القوى التي هيمنت على الانتقال الديمقراطي ستدير الصراع بمنطق التناقض الرئيس (ضد بعضها بعضا من منطلق أيديولوجي)، والتناقض الهامشي (ضد النظام الحالي)، وهو ما سيشتت أصوات الناخبين من جهة أولى، كما سيدفع -من جهة ثانية- بأشباح الانتقال الديمقراطي إلى واجهة المشهد، مع ما يعنيه ذلك من إحياء لمخاوف عموم المواطنين من المعارضة وصراعاتها الهوياتية، التي ذهبت بريح الثورة واستحقاقاتها الاقتصادية والاجتماعية.

ولا شك في أن هذا السيناريو، سيجعل من انتصار الرئيس أمرا محتوما دون الحاجة إلى تدليس النتائج، وإذا ما غادرنا المنطق الافتراضي ورجعنا إلى الوضع الواقعي للمشهد السياسي الآن-وهنا، فإننا نذهب إلى أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة انتخابية ثانية، وهي عُهدة لا ترتبط بمشروعية الأداء بقدر ارتباطها بفقدان الأجسام الوسيطة لأي شرعية مستأنفة، وعجزها إلى حدود هذه اللحظة عن تقديم بديل جامع يستطيع منافسة سردية تصحيح المسار، وما يؤسسها من نقد جذري للديمقراطية التمثيلية.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)