مع اقتراب موعد
الانتخابات الرئاسية
التونسية، يبدو أن هذا الاستحقاق الوطني الذي يمثل اكتمال "التأسيس
الجديد" بالنسبة إلى الرئيس قيس سعيد وأنصاره قد يتحول إلى أزمة مفتوحة من
الأزمات السياسية الدورية التي عرفتها تونس منذ المرحلة التأسيسية للانتقال
الديمقراطي أو ما يسميّه "تصحيح المسار" وحلفاؤه بـ"العشرية
السوداء".
فرغم غياب السجال العمومي الحر بشأن
الانتخابات في المنابر الإعلامية العمومية والخاصة، ورغم انتشار نوع من الخوف
المعمّم من المرسوم عدد 54 لسنة 2022 والمتعلق بـ "مكافحة الجرائم المتصلة
بأنظمة المعلومات والاتصال"، فإن بعض الأصوات المنتمية إلى المعارضة الجذرية
أو "الموالاة النقدية" قد عبرت عن انتقادات كبيرة للمسار الانتخابي سواء
من جهة الإخلالات القانونية (عدم إصدار هيئة الانتخابات للروزنامة الانتخابية قبل
٩ أشهر من تاريخ الانتخابات، عدم تحديد موعد إجراء الدور الثاني، عدم تكفل مجلس
النواب بتحديد موعد الانتخابات حسب ما يقتضيه دستور 2022)، أو من جهة الإخلالات
المتعلقة بالناحية الإجرائية مثل عدم حياد الإدارة أو شبهات عدم استقلالية هيئة
الانتخابات المعينة من لدن الرئيس، وغياب الهيئة التعديلية للإعلام ( الهايكا)
وغير ذلك من المطاعن التي لم تمنع الكثير
من الشخصيات من سحب استمارة جمع التزكيات الشعبية اللازمة للترشح.
رغم كل ما يشوب المسار الانتخابي من شبهات
تمس قواعد التنافس النزيه وتكافؤ الفرص وحياد الإدارة واستقلالية الهيئة العليا
المستقلة للانتخابات، ورغم إخراج العديد من الشخصيات الوازنة من المنافسة (فرض شرط
تعجيزي يتمثل في طلب توكيل خاص للمساجين السياسيين من مثل عصام الشابي وغازي
الشواشي وعبير موسي)، فإن عدد من سحبوا استمارة التزكيات الشعبية ـ حسب هيئة
الانتخابات ـ قد بلغ يوم 22 يوليو 86 شخصية من بينهم الرئيس قيس سعيد ذاته.
وإذا ما كان الرئيس المنتهية ولايته قيس
سعيد قد اتجه إلى خيار جمع التزكيات الشعبية ـ مع قدرته على الحصول على تزكية
النواب ـ لتأكيد شعبيته ولإظهار نوع من الخضوع لقواعد التنافس النزيه مع خصومه، فإن
الالتجاء إلى التزكيات الشعبية لم يكن خيارا أمام باقي المترشحين بمن فيهم أولئك
الذين شاركوا في الانتخابات البرلمانية، بل أولئك الذين ادّعوا ـ قبل إعلان
الانفصال "الناعم" عن الرئيس ومشروعه السياسي ـ أنهم يملكون كتلا نيابية
داخل المؤسسة التشريعية. كما يمكن ملاحظة أنّ كل الترشحات تقريبا هي ترشحات فردية
غير مسنودة بالأحزاب. وهو أمر مردود إلى الفلسفة السياسية لمشروع "تصحيح
المسار" وموقفها السلبي من الديمقراطية وأجسامها الوسيطة، خاصة الأحزاب.
في ظل هذا الوضع السياسي، يبدو أن إمكانية
تغيير النظام في محطته التأسيسية الأخيرة هي ما دفع بالشخصيات المعارضة إلى تقديم
ترشحاتها. وليس يعنينا في هذا المقال أن نبين مدى واقعية هذا الخيار أو عقلانيته،
بل إن كل ما يعنينا هو أنه قد أوجد نوعا من الحراك أو الجدل الذي ينذر بإعادة
هندسة المشهد السياسي على أسس مستأنفة. فقد كان السجال العمومي قبل تحديد موعد
الانتخابات الرئاسية محكوما بانقسام حاد بين الرئيس وحلفائه في الموالاة النقدية
من جهة أولى، وبين المعارضة الجذرية لتصحيح المسار من جهة ثانية.
الموالاة النقدية اقتربت من المعارضة دون قطع الحبل السري مع "تصحيح المسار"، أما المعارضة فإن الواقعية السياسية قد دفعت بالعديد من رموزها إلى تجاوز منطق عدم الاعتراف بالنظام وشرعيته وأجبرتها على القبول بمنافسة الرئيس بشروطه
ويمكن رذ هذا الانقسام إلى التعارض بين
سردية أولى تعتبر إجراءات الرئيس يوم 25 يوليو 2021 إجراءات شرعية ودستورية،
وسردية ثانية تعتبر "تصحيح المسار" مجرد انقلاب على الانتقال الديمقراطي
وبالتالي لا شرعية له. ولكنّ نجاح الرئيس في فرض منطق الأمر الواقع على خصومه
وإصراره على تهميش الكيانات السياسية الداعمة لتصحيح المسار، فككّ هذا التعارض
الصلب بين الأنصار والخصوم وأعاد تشكيل المواقف/المواقع من الرئيس ومشروعه
السياسي. فالموالاة النقدية اقتربت من المعارضة دون قطع الحبل السري مع
"تصحيح المسار"، أما المعارضة فإن الواقعية السياسية قد دفعت بالعديد من
رموزها إلى تجاوز منطق عدم الاعتراف بالنظام وشرعيته وأجبرتها على القبول بمنافسة
الرئيس بشروطه (الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي وما فرضه النظام الحاكم من
واقع سياسي جديد من خلال الأوامر والمراسيم).
بصرف النظر عن التبريرات السفسطائية التي لا
شاهد لها منذ 25 يوليو 2021، يبدو أن ترشح بعض رموز "اليسار الوظيفي"
(القومي والشيوعي) والتجمعي الجديد قد جاء لتأكيد اليأس من إيجاد موطئ قدم في مسار
"التصحيح"، أي في مركز السلطة أو حتى في هوامشها المعترف بها من الرئيس.
فرغم ما قدمه اليسار الوظيفي وورثة المخلوع من دعم للرئيس قبل 25 يوليو 2021
وبعده، ورغم اضطلاعهم بدور الآلة الدعائية لقرارات الرئيس ـ من جهة تبرير القرارات
ومن جهة مهاجمة الخصوم ـ، فإن ذلك كله لم يشفع لهم لاحتلال مواقع داخل النظام.
ويبدو أن هذه "المعارضة الانتخابية" لن تخرج من دائرة
"الوظيفية"، أي من دائرة التشغيب على المعارضة الحقيقية. فتناقضها
الرئيس (بالمعنى اليساري المعروف) هو مع المعارضة المناهضة للنظام ومشروعه السياسي
(الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي)، وليست معارضتها للرئيس ومشروعه إلا من
باب التناقض الثانوي، أي من باب الموالاة النقدية الرافضة لبعض سياسات الرئيس تجاه
مكوّنات "العائلة الديمقراطية" تحديدا. وهو ما يعني أن "صراع
الإخوة" في هذا الخندق سيصب خراجه لا محالة في خزائن الرئيس. ذلك أن هؤلاء
سيزيّنون المشهد الديمقراطي "الصوري"، وستكون مشاركتهم ـ رغم أنها
منذورة سلفا للفشل ـ دليلا على وجود مناخ الحريات العامة، كما أنهم سيتكفلون
بمهاجمة خصوم الرئيس والدفاع من طرف خفي عن شرعية "تصحيح المسار" لكن مع
الحرص على انتقاد سياساته.
أما رموز المعارضة الجذرية من المترشحين
للانتخابات الرئاسية، فإن واقعيتهم السياسية تضعهم في تناقض كبير مع سرديتهم
القائلة بلا شرعية هذا النظام، وبالتالي لا شرعية مساره ومنه الانتخابات الرئاسية.
فكيف يمكن اتهام النظام بعدم الشرعية ثم القبول بالدخول في انتخابات تشرف عليها
مؤسساته وتجرى على عين مراسيم الرئيس وأوامره؟
مهما كان الفائز، فإننا لا يمكن أن نتوقع تجاوز الأزمة المتعلقة بحكم غياب أي توافق نخبوي وشعبي حول المشروع الوطني المشترك.
ولا شك عندنا في أن الوعود المتعلقة بإعادة الاعتبار للمؤسسات الدستورية
وللأحزاب لا يرفع هذا التناقض. ويبدو أن الخروج من وضعية التقابل الجماعي مع
النظام إلى وضعية التنافس الفردي على إزاحته سيجعل من مفهوم الالتقاء الموضوعي
لرموز المعارضة الجذرية وقواعدهم ـ على الأقل في الدور الأول من الانتخابات ـ مجرد
أثر بعد عين. فالجدل على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها يُظهر أن "صراع
الإخوة" آخذ في الاحتدام، وهو ما يخدم ـ في نهاية التحليل ـ حظوظ الرئيس
المنتهية ولايته قيس سعيد. فانقسامات رموز المعارضة ـ لأسباب تتعلق بتضخم الأنوات
وعدم وجود رمز قادر على فرض نفسه على الجميع ـ ينذر بتشتت قواعدهم الانتخابية خلال
الدور الأول، مما يعني تقوية فرص الرئيس للفوز وعدم إجراء دور ثان.
يبدو أن "الواقعية السياسية" التي
تحكم الترشحات للانتخابات الرئاسية هي أكبر حليف للرئيس قيس سعيد، بل يبدو أنها
ستعطي النظام شرعية مستأنفة بصرف النظر عن النتيجة. فمهما كان الفائز، فإننا لا
يمكن أن نتوقع تجاوز الأزمة المتعلقة بحكم غياب أي توافق نخبوي وشعبي حول المشروع
الوطني المشترك. وقد يكون من المضحكات المبكيات أن لا أحد من الشخصيات المترشحة
فكّر فيما طرحه أحد "الوظيفيين" من أساتذة القانون الدستوري: سحب الأمر
المتعلق بالانتخابات وتأجيلها لجعلها مطابقة لدستور 2022 وكي لا تكون نتائجها تحت
طائلة الإلغاء من جهة الإطار التشريعي المنظم لها. إننا أمام فرضية واردة نظريا
وإن كانت مستبعدة واقعيا. إذ يمكن للجلسة العامة للمحكمة الإدارية أن تقرر إلغاء
نتائج الانتخابات الرئاسية في حال إثبات وجود إخلالات تطعن في نزاهة المسار
الانتخابي في جميع مراحله وتؤكد وجود تزييف لإرادة الناخبين.
ختاما، فإن
"الواقعية السياسية" التي تحتكم إلى عقل حسابي بارد، قد تكون خيارا
عقلانيا لو استطاع القائلون بها فرض مطالبهم المتعلقة بالمسار الانتخابي (وهو ما
لم يحصل)، ولكنها تتحول بالضرورة إلى خيار سياسي غير نضيج عندما يقبل أصحابها بشروط
اللعبة كما يفرضها النظام ثم يتوقعون الاستفادة منها لإزاحة من وضعها بمنطق البديل
لا بمنطق الشريك.