لم يكن أكثر المتشائمين، أو حتى من تحركهم أيادي الحقد
والغيرة والضغينة، يعتقدون أن
العلاقات الفرنسية
الجزائرية ستنقلب رأسا على عقب،
أو تكاد، بسبب "لا قضية" تخفي كثيرا من دوافعها أكثر مما تظهر، أو هكذا
يبدو. فهذه سيدة حاملة للجنسيتين الفرنسية والجزائرية، وتعتبرها السلطة في
الجزائر، عبر ذراعها الإعلامية الرسمية، "امرأة ليست صحفية ولا مناضلة ولا
تحمل أية صفة"، تتحول إلى وقود "حرب" طاحنة بين الدولة الجزائرية
بـ "مؤسساتها" كافة في مواجهة الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية؛ باعتبارها مهندسة
خطة "يتم تنفيذها من قبل عملاء سريين. وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل
جزائري، لا يخفون ولعهم وتبجيلهم للمخزن"، وهو ما ينذر بـ"رؤية كل ما تم
بناؤه بين الرئيسين تبون وماكرون لفتح صفحة جديدة بين البلدين ينهار"، ومن
خلال ذلك حدوث قطيعة وشيكة بين البلدين.
يتفق كثيرون على أن العلاقة الفرنسية الجزائرية لم تكن
يوما بالقوة التي شهدناها قبل التصعيد الأخير، خصوصا مع دخول علاقات المستعمر
السابق مع الجار الغربي مرحلة أسمتها مجلة لاكروا الفرنسية في مقال تحليلي لها، بـ"البرد
القطبي"، على خلفية اعتبار
المغرب قضية الصحراء المغربية بمنزلة "النظارة
التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق
الصداقات، ونجاعة الشراكات" كما جاء في خطاب ملكي.
الولع بالمخزن وتبجيله لم يقتصر على من أسمتهم وكالة
الأنباء الجزائرية "المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري"، بل تعدى ذلك
إلى التلفزيون الرسمي للدولة الذي أنهى تقريرا له، خصصه قبل أيام لتداعيات
"أزمة" أميرة بوراوي، بالقول؛ إن "الجزائر تؤكد في كل مرة بأنها
دولة ذات سيادة وتحترم سيادة الدول، وتراها النظارة التي تحكم من خلالها علاقاتها
بكل الدول بمنطق جديد تفرضه. منطق يرفض كل المساومات والتنازلات".
تحولت لقضية لشغل الرأي العام عن الخلل الأمني الذي سمح بخروجها من الحدود الجزائرية، واتهام المخابرات الفرنسية بتدبير ذلك، مع الإصرار على اعتقال عدد من معارفها وأقاربها بدعوى مساعدتها على الهرب، تفتح على قراءتين اثنتين لهما ما يبررهما من واقع التحركات الديبلوماسية التي سبقتها.
في
تونس، أوقفت، أميرة بوراوي، عندما كانت تحاول ركوب
طائرة متوجهة إلى
فرنسا مستعملة جواز سفرها الفرنسي، وأفرجت عنها محكمة تونسية ليتم
إيقافها من رجال أمن ضدا على الحكم القضائي، والهدف كان إجلاءها في اتجاه الجزائر،
لتتدخل القنصلية الفرنسية لتمكينها من المغادرة في أمان. قد تختلف النظارات لكن
الأكيد أن إحداها أصل والأخرى مجرد تقليد.
اللاقضية التي تحولت لقضية لشغل الرأي العام عن الخلل
الأمني الذي سمح بخروجها من الحدود الجزائرية، واتهام المخابرات الفرنسية بتدبير
ذلك، مع الإصرار على اعتقال عدد من معارفها وأقاربها بدعوى مساعدتها على الهرب،
تفتح على قراءتين اثنتين لهما ما يبررهما من واقع التحركات الديبلوماسية التي
سبقتها.
في الاحتمال الأول، يمكن اعتبار أن "اللاقضية"
مجرد محاولة من الجزائر لافتعال أزمة ديبلوماسية مع فرنسا؛ لا لرغبة في الضغط
عليها لتحقيق مطالب محددة، بل لفرملة هذا التقارب المتسارع بين البلدين وإعادة عقارب
الزمن إلى الوراء. فرملة التقارب على وقع "أزمة" مفتعلة يمكِّن الجزائر
من إيجاد مبرر موضوعي (السيادة الوطنية)، لاستعادة مكانها الطبيعي حليفة
"موثوقة" للدب الروسي، الذي ما كان له أن يبقى مكتوف الأيدي وهو يشهد
إمكانية نجاح تشكل شهر عسل مستدام في العلاقة الجزائرية الفرنسية، ومن ورائها
انحراف حليفتها للمعسكر الغربي.
قبل أيام من اندلاع "الأزمة" الحالية، استقبِل
رئيس أركان الجيش الشعبي بحفاوة بمختلف قصور الحكومة الفرنسية، من الإليزيه إلى
وزارة الجيوش، في إطار تنسيق عسكري وأمني جسّده لقاء غير مسبوق لقادة الأجهزة العسكرية
والمخابراتية في العاصمة الجزائر، تتويجا لزيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر في
آب/ أغسطس الماضي. بيان الرئاسة الجزائرية وصف ذاك الاجتماع التنسيقي بأنه
"الأول من نوعه بهذا المستوى منذ الاستقلال.. يأتي ليؤكد حرص رئيسي البلدين
على تطوير العلاقات الثنائية في مختلف المجالات؛ قصد الارتقاء بها إلى المستوى
المنشود".
يومها، قيل إن الجزائر أثارت مسألة إقامة مسؤولين أمنيين
وعسكريين جزائريين فارين في فرنسا، ومعهم ناشطون معارضون تصنف الجزائر تنظيماتهم حركات
إرهابية، وتطالب باريس بتسليمهم للعدالة الجزائرية. برنارد
إيمي، رئيس المديرية العامة للأمن الخارجي (المخابرات الفرنسية الخارجية)، كان حاضرا في الاجتماع، وهو بالمناسبة سفير
سابق بالجزائر في الفترة الفاصلة بين عامي 2014 و2017، وهو المتهم اليوم بالسعي
لتقويض تقارب الرئيسين، من خلال "إجلاء سري" منسوب لعملاء تابعين له، لناشطة سياسية لا تأثيرا حقيقيا لها.
زيارة السعيد شنقريحة والتحضير لزيارة عبد المجيد تبون،
تبعها حوار صحفي لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، كذّب فيه ما أذاعته وزارة
الدفاع الجزائرية عن تأجيل مناورات عسكرية كانت مبرمجة بين البلدين على الحدود
المغربية. لافروف أقر بإجراء المناورات، واستعاد كثيرا من تفاصيل "الشراكة
الاستراتيجية" بين البلدين، قبل أن يضيف أنه "من الخطأ ممارسة ضغوط
غربية على الجزائر لتغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا"، وأضاف:
"الجزائريون ليسوا ذلك الشعب الذي يمكن أن يملي عليه أحد ما يفعله بهذا
الشكل، ولا يمكن أن ينتظر من الجزائريين أن يمتثلوا وينفذوا بإشارة يد من وراء المحيط
توجيهات تتناقض بشكل مباشر مع مصالحهم الوطنية. الجزائر، مثل غالبية البلدان، دولة
تحترم نفسها وتاريخها ومصالحها التي على أساسها ترسم سياساتها".
لافروف ألغى بالمناسبة محطة الرباط من زيارة أفريقية له
بداية شباط/ فبراير الحالي. ولأن سيرغي لافروف لا يقدح من رأسه، فقد سبقه رئيسه
فلاديمير بوتين للاتصال بالرئيس الجزائري، أياما فقط بعد عودة رئيس الأركان من
زيارته الباريسية التي تم التهليل لنجاحها. وخلال الاتصال تم تأكيد موعد زيارة تبون
لموسكو بعد أن أصابتها لعنة التأجيل لشهور. زيارة الرئيس تبون حُددت في شهر أيار/مايو، وهو نفس الشهر المعلن سلفا لزيارة كانت مرتقبة لباريس، لكن الأحداث التي تلت
"لا قضية" أميرة براوي تجعلها على كف عفريت. هنا مربط الفرس، فإفشال
الزيارة الباريسية يفتح الآفاق واعدة لزيارة موسكو التي ينتظر منها تكريس الشراكة
بين البلدين "الحليفين".
بيان أو مقال وكالة الأنباء الجزائرية يؤكد هذا الطرح؛ فقد استعاد، دون مناسبة واضحة، الإنزال الأمريكي لمعارضين كوبيين بخليج الخنازير
في ستينيات القرن الماضي، في إشارة تبرز كيف أن التفكير السياسي الجزائري لا يزال
متوقفا عند محطة الحرب الباردة وتداعياتها، بالرغم من كل المحاولات الساعية لإظهار
القرب من النموذج الغربي. بيانات الخارجية الجزائرية مثال واضح يستحق الدراسة
للوقوف على هذا المعطى الغريب.
الحليف التونسي يعيش على منطق التوجس نفسه، وهو ما قد يفسر انتقاله من مرحلة الوعيد الإنشائي لمرحلة اعتقال رجال أعمال وسياسيين وإعلاميين؛ بدعوى التآمر على أمن الدولة والتحضير لانقلاب. وبأجواء الخوف هذه، لا تشجع على بناء تحالفات مع أنظمة غربية لا تتوانى عن استخدام سلاح الحقوق والحريات، كلما رأت في الموضوع ما يدعم خططها لإبقاء نفوذها.
لقد كثُر الحديث عن ضغوطات غربية على الجزائر، تزعمتها
سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية، لثنيها عن الاستمرار في دعم الصناعة العسكرية
الروسية، بما يزيد الضغط على مالية موسكو، من خلال الامتناع عن اقتناء أسلحتها.
ميزانية وزارة الدفاع استجابت لتلك الضغوط و"ألغت" ما قيل إنه خمسة
مليارات دولار كانت مخصصة لصفقات سلاح روسي. وموسكو لن تسمح بفقدان
"نفوذها" في دولة محورية، وهي التي تسعى لتكريس وجودها في القارة
الأفريقية، وبالأخص منطقة الساحل والصحراء. الحرب الخفية والمعلنة بين المعسكرين
تجلّت في الضغوط التي تعرضت لها تونس، الجارة الشرقية للجزائر، لثنيها عن استقبال
وزير الخارجية الروسي، بدعوى "الوضع الأمني الذي لا يسمح بهذه الزيارة في الوقت
الحالي" كما بررت الخارجية التونسية الموضوع.
الاحتمال الثاني، أن تكون الجزائر بالفعل منزعجة من
طريقة التعامل الفرنسي مع حالة أميرة بوراوي، ليس من منطلق "إجلائها
السري" من الجزائر، بل لطريقة ضغطها على تونس، "الحديقة الخلفية"
الجديدة للأجهزة الجزائرية كما يبدو. إفشال فرنسا، من خلال تفعيل الحماية القنصلية
لحاملة جنسيتها، أظهر محدودية التأثير المفترض للجزائر بدولة تونس التي قدمت
لرئيسها العون والمدد ولا تزال. كما أن وصول بوراوي إلى وجهتها الخارجية إعلان فشل
ذريع للقبضة الأمنية، التي صارت تباشيرها وبصماتها واضحة، في سعيها لتأمين الولاية
الثانية لعبد المجيد تبون. وما استحضار "خليج الخنازير" إلا إعلان صريح عن
تخوف يعتمل لدى النظام من الانقلاب عليه، بمساعدة خارجية محتملة، يراها جزءا من
مؤامرة بدأت بتحالف المغرب مع الكيان الصهيوني، وما استتبع ذلك من تحركات مناوئة على
مستوى المؤسسة التشريعية الأمريكية وغيرها.
الحليف التونسي يعيش على منطق التوجس نفسه، وهو ما قد
يفسر انتقاله من مرحلة الوعيد الإنشائي لمرحلة اعتقال رجال أعمال وسياسيين
وإعلاميين؛ بدعوى التآمر على أمن الدولة والتحضير لانقلاب. وبأجواء الخوف هذه لا
تشجع على بناء تحالفات مع أنظمة غربية لا تتوانى عن استخدام سلاح الحقوق والحريات، كلما رأت في الموضوع ما يدعم خططها لإبقاء نفوذها والإضرار بمصالح المستعمرات
القديمة، من خلال تحقيقات صحفية "مفبركة"، أو قرارات برلمانية تحدث الصدى
الإعلامي المطلوب دون قدرة على التأثير الفعلي.
قصة أميرة بوراوي وإن كانت في الأصل "لا قضية" تنذر بكشف كثير من الحقائق المعتملة في كواليس الصراع الغربي الروسي، ومن خلاله حالة اللا حرب واللا سلم التي تطبع علاقات الجارين الجزائر والمغرب، وصراع تكريس النفوذ في أفريقيا ومنطقة الساحل على الخصوص.
لنسلم جدلا بأن المخابرات الفرنسية الخارجية هي من خططت
لتهريب أميرة بوراوي. الإجلاء السري، الذي نجح في تخطي الحدود التي تحرسها القوات
الجزائرية، لا يمكن تقبل فشله على مشارف مكتب إركاب بمطار قرطاج. الأكيد أن جهاز
المخابرات الفرنسي يملك عملاء داخل المطارات كلها، وإن لم يكن، فليس أسهل له من
توفير جواز سفر مزور بهوية جديدة لـ"عميلته" للتحرك دون قيود.
فشل الأجهزة الأمنية الجزائرية هو الثابت في العملية،
ومعه رضوخ الدولة التونسية للضغط الفرنسي بالرغم من تأكيدات قيس سعيد المتكررة من
مكتبه الرئاسي، وأمام رئيسة وزرائه، أن تونس ليست "تحت الاستعمار أو
الحماية"، بل هي دولة "مستقلة ذات سيادة"، ردا على تصريحات أمريكية
أدانت حملة الاعتقالات الأخيرة بالبلاد.
قصة أميرة بوراوي وإن كانت في الأصل "لا قضية"
تنذر بكشف كثير من الحقائق المعتملة في كواليس الصراع الغربي الروسي، ومن خلاله
حالة اللا حرب واللا سلم التي تطبع علاقات الجارين الجزائر والمغرب، وصراع تكريس
النفوذ في أفريقيا ومنطقة الساحل على الخصوص. ومسارعة وكالتي أنباء الجزائر
والمغرب الرسميتين للترويج لتعرضهما لهجمات سيبرانية، تكاد تكون متزامنة، أمر يصب
كثيرا من الزيت على النار، ويدعو للقلق ويستدعي اليقظة والانتباه.