لا تكلّ
فرنسا وطبقتها السياسية ومؤسساتها الرسمية
والأهلية وكثير من رموزها الثقافية والفنية من التذكير كلما سنحت الفرصة لهم،
بمناسبة أو بدونها، بالأسس المؤسِّسة لعلمانيتها المتطرفة، التي تحاول تقديمها على
أنها ضمانة للحريات الفردية والجماعية. واقع الحال أثبت أن "
العلمانية"
الفرنسية تحولت مع مرور الوقت، من فترات الوفرة إلى فترة الأزمة الحالية، وما رافق
ذلك على مّر العقود من انزياح الطبقة السياسية والمجتمع الفرنسيين للفكر اليميني
المتطرف، إلى سيف مسلط على كل من يشهر معارضته للتوجهات العامة للدولة وقادتها.
القادة هنا ليسوا بالضبط قادة سياسيين، كما ألِفنا في دول
السلطوية، بل يتعدى الأمر ذلك إلى اللوبيات وقوى الضغط النافذة المسيطرة على وسائل
التأثير على الرأي العام، والسياسة مجرد أداة من أدواتها؛ تلك الأدوات التي تحاول
جاهدة، عبر ما أوتيت من إمكانيات، حشر مسلمي فرنسا في الزاوية وإظهارهم بمظهر
الضلع الفاسد، الذي لا يتوافق وقيم الجمهورية المستلهمة من المزيج المسيحي اليهودي
الذي تآلف الفرنسيون على تبنيها.
"العلمانية" الفرنسية، وإن صرّحت علانية في
السنوات الأخيرة بلا دينيّتها بديلا عن حماية ممارسة الأديان، تستخدم الدين وسيلة
للضغط والإرهاب حين ترى الأمر ضروريا دون أن تخجل من "دينيّتها". في
العهد الحالي يبدو أن "الغلمانية" ألقت بظلالها وأحكمت قبضتها على دوائر
القرار، فحّولت البلاد من "دولة علمانية" مرجوّة إلى دولة غلمانية
معلنة.
عندما نصّب الرئيس الفرنسي حكومة رئيسة وزرائه إليزابيت
بورن، لم يُفلت دعاة الغلمانية الفرصة دون النبش في ماضي أعضائها؛ بحثا عمّا قد يشي
بخروجهم عن الصف "الوطني" المساند للغلمانية وتوجهاتها. محاكم التفتيش
الجديدة أفضت إلى طرح التساؤل إن كانت الحكومة معادية لـ"المثليين" على
صفحات جرائد "رصينة" كجريدة ليبراسيون، وهي التي كانت في وقت من الأوقات
رمزا لليسار. مردّ الاتهام وجود خمسة أعضاء في صفوفها كانوا أعلنوا مواقف رافضة
لقانون "الزواج للجميع"، الذي تم اعتماده قبل عشر سنوات. لم يترك أحد من
هؤلاء الخمسة، باستثناء وزير الداخلية جيرالد دارمنان، من دلائل "إدانة"
تحملها كتابات سابقة إلا ومسحوها، فالمسألة في الدولة الغلمانية الجديدة مسألة
وجود بالنسبة للسياسي وطموحاته في الوصول لمراكز المسؤولية والقرار.
وزير العمل أوليفي ديسوب، ابن الحزب الاشتراكي الفرنسي
السابق، لم يجد غير إعلان "مثليته" لمواجهة الاحتجاجات الكبيرة التي واجهت
تقديمه لقانون التقاعد الجديد. إعلان "المثلية" صار وسيلة لاستدرار
العطف، ورفع نسب الشعبية المتدنية التي تعاني الحكومة وأعضاؤها من تبعاتها. كاتبة
الدولة المكلفة بالشباب والخدمة الوطنية، سارة الحايري، اتخذت نفس القرار أسبوعا
بعدها لتضاف لقائمة كبيرة تضم وزير الحسابات العمومية غابرييل عطال، الذي يتقاسم
حياته مع المستشار الأقرب للرئيس ماكرون. ستيفان سيجورنيه ليس المستشار الرئاسي
الوحيد الذي أعلن عن ميولاته الجنسية، بل يشاركه في الأمر كليمون بون، وهو مستشار
سابق يشغل اليوم منصب وزير منتدب مكلف بالشؤون الأوروبية.
الدائرة الضيقة للرئيس ماكرون، تبدو حاملة لمشعل تحويل
فرنسا من دولة "علمانية" إلى "غلمانية"، لا لون يعلو فوق ألوان
قوس قزحها.
في فرنسا، يسمى كل فعل لا يدعم "حقوق
المثليين" رُهابا. والرهاب في فرنسا لا يعتبر رأيا، بل جريمة يعاقب القانون
عليها بسنة سجنا وغرامة تصل إلى خمس وأربعين ألف يورو. في دعم "المثلية"
لا وجود لمنطقة رمادية أو حرية اختيار، إما أن تكون معنا مهاجرا بالدعم، وإلا
فتصنيف الرهاب تهمة جاهزة تستحق العقاب.
بداية هذا الأسبوع، طالبت وزيرة الرياضة الفرنسية إميلي
أوديا كاستيرا
بإنزال العقاب بعدد من لاعبي فرق
كرة القدم بالدوري الفرنسي؛ على
خلفية تخلفهم عن المشاركة في مباريات الجولة التي كانت موجهة لدعم "حقوق
المثليين". لم تر الوزيرة في موقف اللاعبين اختيارا شخصيا أو حرية اعتقاد. لا
مجال في هذه الواقعة للعودة إلى "حقوق الإنسان" التي تكفل الحرية في الاختيار
والاعتقاد، اللاعبون هنا مجرد قطيع أعمى يساق إلى "مذبحه"، دونما فرصة في
المقاومة أو الرفض أو حتى البقاء في منطقة الحياد.
الحياد هو بالضبط ما اختاره هؤلاء اللاعبون، وكان أبرزهم
محمد مصطفى، اللاعب المصري في فريق نانت، وزكرياء أبو خلال، لاعب تولوز المغربي.
لقد اختار اللاعبان، وهما يعلمان قوة وسطوة الحركة الغلمانية في أوروبا وفي فرنسا
على وجه الخصوص، الإعلان عن أسباب عدم المشاركة وربطها بالاحترام وحرية الاختيار.
ملخص إعلان اللاعبين، أنهما "يقدّران قيمة الاختلاف، لكن هذا الاختلاف يمتد
أيضا ليشمل احترام معتقداتهما الشخصية التي لا تسمح لهما بالمشاركة في الحملة
الترويجية تلك". مصطفى تلقى عقوبة مالية، لكن قصة زكرياء أبو خلال أُريد لها
أن تأخذ أبعادا أخرى.
يذكر الجميع كيف أن الاتحاد الفرنسي للعبة، دونا عن غيره
من اتحادات الكرة في العالم، أصدر تعميما داخليا للحكام، سرّبه أحدهم فعوقب بعدم
المشاركة في دورة تكوينية كان أهلا لها، ملخصها عدم السماح للاعبين
المسلمين من
كسر الصيام خلال المباريات
التي تقام خلال شهر رمضان. تبِع ذلك نقاشات مطولة في
استوديوهات التحليل التلفزيونية الرياضية منها والسياسية. فرنسا تريد من اللاعبين
المسلمين الاختيار بين
المشاركة في اللقاءات صياما، وما قد يستتبع ذلك من مشقة
بدنية، أو الإفطار امتثالا لتعاليم حراس معبد "العلمانية" الرياضية.
انتهت "الحرب" المعلنة إلى لا شيء، لعدم وجود
موضوع يستحق النقاش في الأصل. اللاعبون المسلمون راضون بوضعهم داخل رقعة الميدان، ولم يطلبوا يوما معاملة تفضيلية أو كسرا لقواعد تنظيم المباريات. لأجل ذلك، لا بد
من اختلاق "معركة" طواحين هوياتية جديدة، لا أفضل من حمل لوائها من حراس
معبد "الغلمانية" الوليدة.
رفض بعض اللاعبين حمل شارات أو أقمصة ملونة بالألوان
القزحية، ليس جديدا وتكرر وسيتكرر في مستقبل الأيام، لكن ما المانع من رمي بعض
الزيت على النار؟ فكل جدال في الموضوع يحقق مصلحة مطلوبة، تعيد الموضوع للنقاش
العلني وتمنح المدافعين عنه مناسبة للحديث عن معاناة مفترضة، ونضال مستمر لتحقيق
الذات على المستويين الفردي والجماعي.
زكرياء أبو خلال، قدم في كأس العالم نموذجا للاعب
المتمرس والمعتز بتعاليم دينه، بل المبادر إلى الإعلان عنها والدعوة لاعتناقها.
أبو خلال كان خلال فترة كأس العالم خطيبا لصلاة الجمعة وإماما للاعبين. يومها،
تحركت بعض الأقلام النشاز في الداخل محذرة من اختراق سلفي لصفوف المنتخب، أظهرت
"سجدته التي احتفى بها بعد تسجيل الهدف، وهي ممارسة دخيلة على الرياضة
المغربية، ما ينم عن تشبعه بأفكار تنحو نحو التشدد الديني"، وأن أبو خلال
"استغل المونديال لممارسة الدعوة إلى الإسلام، واستقطاب أنصار جدد لتبني
أفكاره الدينية التي تلقنها على يد شيوخ السلفية في أوروبا، ما يعد استغلالا
لتظاهرة رياضية من أجل أغراض دينية"، قبل الختم، بأن على أبو خلال أن يعلم أنه
التحق بالمنتخب الوطني "ليمثل المغرب ويلعب كرة القدم، وليس لينشر الدعوة
السلفية الوهابية للعموم، وبين زملائه من اللاعبين".
يومها، خرج نادي تولوز ببلاغ يدافع فيه عن اللاعب وينفي
كل الاتهامات الموجهة له، مع احتفاظ النادي بحقه "في استخدام سبل
المتابعة القانونية المتاحة كافة، للدفاع عن صورة اللاعب وسلامته". نفس النادي، لم
يستطع الخروج بموقف مماثل وهو يرى كيف أن موقعا فرنسيا كبيرا تابعا لقناة
تلفزيونية رياضية معروفة، هي "آر إم سي"، يتهم لاعبه، على خلفية عدم
مشاركته في مباراة دعم القزحيين، بتبني نفس الأفكار السلفية المنغلقة، وهو يفبرك
ردّا له على نائبة عمدة مدينة تولوز، في أثناء احتفال المدينة بفوز فريقها بكأس فرنسا
نهاية نيسان/ أبريل الماضي، بالقول؛ "إن النساء في بلاده لا يجرؤن على الحديث
إلى الرجال كما فعلته"، وهي تطلب منهم الإنصات لخطاب يلقيه مدرب الفريق.
السيدة المعنية نفت في نفس مقال الموقع الفرنسي صحة الحادثة، لكن النادي أبعد
اللاعب عن حصص التدريب الجماعية، وفتح تحقيقا أفضى إلى بيان "محتشم" يعلن
عن عقد لقاء بين الطرفين، انتهى لنتيجة كون
الحادثة "مختلقة"، دون حديث
عن متابعة قانونية تصون صورة اللاعب وتحفظ سلامته.
في المغرب، عاب موقع إلكتروني على نادي تولوز دعمه لأبو خلال
بعد مقال "السلفي المخترق لصفوف المنتخب" قبل أشهر، وهو نفسه من تصدى
ليعيب على المدرب الوطني وليد الركراكي دعمه اللاعب في قضيته الأخيرة، وإعلان
مساندته في مواجهة الاختلاق.
هي "الدولة الغلمانية" تمددت في فرنسا وكثير
من البلدان، وتجد لها صدى في عدد من بلداننا على مستوى تغيير القوانين أو نشر
الأفكار في الصحافة والإعلام، أو السكوت عن الجهر بالحق مخافة الوصم بالمعاداة.