خلال إحدى زياراته لفرنسا، سُئِل الملك الراحل الحسن
الثاني، وهو يهم بمغادرة مكان اجتماعه مع الرئيس الفرنسي آنذاك، من طرف أحد
الصحفيين الحاضرين:
الصحفي: رد فعل
الجزائر كان قويا ضد زيارتكم لفرنسا.
يقولون إنكم أتيتم بحثا عن نصائح وأسلحة لمواصلة الحرب. ما ردكم؟
الحسن الثاني: الرجل الحكيم هو الذي يأتي باحثا عن
النصائح أولا، أما السلاح فنجده في كل مكان.
تغيرت الأزمنة وجرت تحت الجسور مياه كثيرة؛ سقط جدار
برلين معلنا "نهاية" الحرب الباردة، حلّت نزاعات وانتهت حروب، لكن
العداء الجزائري
المغربي ظل راسخا لا تخمد نيرانه حتى تستعر من جديد. وبالرغم من
ذلك، حاول البلدان الحفاظ لعقود على الحد الأدنى من التعايش مع الوضع القائم
وتفادي التصعيد. الأوضاع العالمية المستجدة، وسعي القوى المؤثرة لإعادة رسم خرائط
التوترات والنزاعات، ما عادت تسمح للوضع أن يبقى كما هو دون تحريك. لأجل ذلك، عرفت
السنتان الأخيرتان تصعيدا غير مسبوق، دعا البلدان إلى تكريس التحالفات القائمة
والبحث عن حلفاء جدد، ولو استدعى الأمر تجاوز "المحرمات".
جرت العادة أن يكون حَمَلةُ مثل تلك الرسائل الديبلوماسية من المدنيين في وزارات الخارجية أو رئاسة الحكومات، لكن الأوضاع الملتهبة بالمنطقة والتقاء المصالح الفرنسية الجزائرية في مواجهة المغرب وتحالفاته الجديدة، التي تقوّت في الشهور الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة وإسبانيا في الجانب العسكري والتنسيق الأمني المخابراتي، استدعت الإبقاء على الطابع العسكري للزيارة بحثا عن السلاح دون غيره.
قبل أيام، قام رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أول
السعيد شنقريحة، بزيارة غير "مسبوقة" لباريس. وزارة الدفاع الجزائرية قالت في بيان لها؛ إن "الزيارة
تندرج في إطار تعزيز التعاون بين الجيش الوطني الشعبي والجيوش الفرنسية، وستمكن
الطرفين من التباحث حول المسائل ذات الاهتمام المشترك". لم يعد يُسمح للصحفيين الفرنسيين بالاقتراب من ضيوف
الجمهورية، وطرح الأسئلة لاستبيان ما تتفادى البيانات الرسمية من التصريح والتفصيل
فيه. الصحفيون الفرنسيون صاروا مجرد ضيوف على مآدب العشاء في قصر الإليزيه؛ رغبة
من ساكنه في الترويج لرؤيته الأحادية للمشاكل الاجتماعية التي تعصف بالبلاد، كما
تم فضح ذلك عشية انطلاق أولى التظاهرات المنددة بتغيير قانون التقاعد، بدعوة من
كبرى النقابات بالبلاد.
السعيد شنقريحة كان أيضا من ضيوف الإليزيه، وإلى ساكنه
حمل رسالة من الرئيس عبد المجيد تبون في
إطار التحضير لزيارته المرتقبة لباريس شهر أيار/ مايو القادم. جرت العادة أن يكون
حَمَلةُ مثل تلك الرسائل الديبلوماسية من المدنيين في وزارات الخارجية أو رئاسة الحكومات، لكن الأوضاع الملتهبة بالمنطقة
والتقاء المصالح الفرنسية الجزائرية في مواجهة المغرب وتحالفاته الجديدة، التي تقوّت
في الشهور الأخيرة مع الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة وإسبانيا في الجانب
العسكري والتنسيق الأمني المخابراتي، استدعت الإبقاء على الطابع العسكري للزيارة
بحثا عن السلاح دون غيره، في ظل انحسار القدرة الروسية على تزويد الحليف التاريخي
بشمال أفريقيا، أو استجابة الجزائر لما قيل إنها ضغوط أمريكية متواصلة، لدفعها
للابتعاد عن دعم الآلة الحربية الروسية، وهو ما تكرس بحديث عن إلغاء صفقات أسلحة
كبيرة ومناورات عسكرية، كانت مبرمجة نهاية العام الماضي على الحدود مع الجار
الغربي.
الغريب أن
فرنسا ليست أقل حاجة من الروس لسلاحها في مواجهة
تصاعد الحرب في أوكرانيا، ومعها مسلسل الدعم العسكري الغربي لكييف، لكنها في المقابل
في أمسّ الحاجة إلى استغلال المستجدات الظرفية، للاعتماد على الجزائر في إنقاذ
صورتها المتهاوية بمجمل دول القارة السمراء، وبالأخص في منطقة الساحل، حيث تتساقط
قواعدها ويُطلب منها الرحيل من مالي أولا، ثم بوركينافاسو وقبلهما أفريقيا الوسطى
والبقية في الطريق. تتخوف فرنسا من ضياع مصالحها "التاريخية" في ظل
تنامي النفوذ الروسي والتركي والصيني. الروس والأتراك والصينيون هم الحلفاء
التاريخيون للنظام الجزائري، وفرنسا المنبوذة أفريقيا لم تجد غير الجزائر حليفا يستر
عورتها. ففي الوقت الذي يستمر فيه حظر الطيران المدني المغربي من التحليق فوق
أراضيها، عادت الطائرات العسكرية الفرنسية تصول وتجول، وهي التي توقفت لفترة قصيرة؛ ردا على تشكيك إيمانويل ماكرون في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
فرنسا ليست أقل حاجة من الروس لسلاحها في مواجهة تصاعد الحرب في أوكرانيا، ومعها مسلسل الدعم العسكري الغربي لكييف، لكنها في المقابل في أمسّ الحاجة إلى استغلال المستجدات الظرفية للاعتماد على الجزائر في إنقاذ صورتها المتهاوية بمجمل دول القارة السمراء، وبالأخص في منطقة الساحل، حيث تتساقط قواعدها ويُطلب منها الرحيل
انتهت زيارة السعيد شنقريحة لباريس، ومنها عاد للمشاركة
في أول مجلس "حرب" تعقده الجزائر، وتعلن عنه رسميا في وسائل إعلامها تحت
يافطة المجلس الأعلى للأمن، في غياب كل أعضائه المدنيين؛ من رئيس الحكومة ووزيري
الداخلية والخارجية، والمدير العام للأمن الوطني، وهو اجتماع تلاه تصعيد إعلامي اشتدت
ضراوته، واستخدمت خلاله عناوين مثيرة عن الحرب واللعب بالنار، بالرغم من أن المتن والمضمون
لم يتعد أكثر من مناوشات كلامية بين مسؤولين سابقين، لم يعد لهم أي تأثير في رسم
السياسات، أو الدفع بالأمر في اتجاه الحل أو التعقيد.
يأتي هذا في ظل أخبار تأكد زيفها عن قصف القوات المغربية
لشاحنات تنشط في التجارة البرية بين الجزائر وموريتانيا، وقت انعقاد اللجنة الأمنية
الموريتانية الجزائرية في نواكشوط، دون تكذيب رسمي، وفي ظل إعادة انتخاب إبراهيم غالي
أمينا عاما لجبهة البوليساريو في مؤتمر، أفردت له الصحافة الفرنسية ما استطاعت من
تقاريرها، لدرجة فتح صحيفة لوموند، في عددها ليوم 25 كانون الثاني/ يناير، المجال لعدد
من أعضائها للترويج لمهاجمة البنية التحتية الاقتصادية؛ بهدف منع المغرب من
الاستفادة من ثروات الصحراء، ودعوة الصحراويين في "الأراضي المحتلة"
للمشاركة في النزاع، والتفكير في الاعتماد على الانتحاريين.
محاولات الضغط على المغرب، من خلال الحلف الفرنسي
الجزائري المتجدد، حاولت استثمار بوابة البرلمان الأوروبي، الذي فشل في توظيف ما
يسمى بقضية "قطر غيت"، فحولها إلى قضية أكثر ملاءمة للمزاج الأوروبي تحت
مسمى "المغرب غيت"، التي كان الإعلام الجزائري يروج لها منذ البدء، فتحركت
الآلة السياسية الفرنسية من خلال حزب الرئيس ماكرون، للدفع باتجاه إدانة المغرب
بسبب قضايا متعلقة بسجن صحفيين بتهم "جنسية"، لم يُفهم سبب عودة الحديث
عنها وهي التي مرت عليها شهور وسنوات.
ينسى الفرنسيون أن مجرد بحث صغير على القضايا الجنسية
التي أطاحت بصحفيين فرنسيين "كبار" من أمثال باتريك بوافر دارفور أو جان
جاك بوردان، أو ساسة معروفين كنيكولا هيلو، وهو الوجه الذي صدرته فرنسا للعالم
لعقود قبل أن يصبح وزيرا في حكومة ماكرون، أو فنانين معروفين. هؤلاء الذين كانوا
واجهة فرنسا "الحضارية"، متهمون في قضايا جنسية قبل أن يستفيد بعضهم من
تقادم القضايا، فأجبروا على مغادرة مناصبهم أو استبعدوا من الفضاء العام، في حين
لا يزال البعض الآخر يحاكم أو يقضي عقوبته السجنية، جراء ما اقترفوه، دون أن يتحرك
البرلمان الأوروبي لإدانة القضاء الفرنسي. التحقيقات في الاتهامات بالاغتصاب لم
تستثن وزراء عمِلوا في حكومات ماكرون بدءا بوزير الداخلية فوزير التضامن، وانتهاء
بوزيرة الدولة للتنمية والفرنكوفونية. وإن كانت السلطات المغربية
قد "تواطأت" لإدانة المتهمين، فالسلطات الفرنسية تواطأت بالمقابل لإغلاق
القضايا المرفوعة ضد "خُدّامها".
ولأن الجزائر لا تملك هذه الأريحية بالنظر لما أصدرته من
أحكام عقابية ضد الصحفيين، وصلت للحكم بالإعدام على عبدو السمار الصحفي اللاجئ
بفرنسا، فقد ارتأت أن تأكل الثوم بفم حلفائها ضد المغرب، كما فعلت مع
"وريث" عائلة مانديلا بافتتاح بطولة الشأن الرياضية، أو ورئيسة البرلمان
الأنديني التي دعتها الجزائر للمشاركة في مؤتمر اتحاد مجالس الدول الأعضاء في
منظمة التعاون الإسلامي قبل أيام.
قدر المغرب والجزائر أن يواجها بعضهما بعضا في فترات السلم أو الحرب، أما الاعتقاد بأن اللعب على تناقضات الأوضاع الدولية المتوترة والمتغيرة لمحاولة إضعاف الطرف الآخر، فمجرد أوهام لا تقوى على الصمود. اختلال موازين القوى ومعها القدرة على التأثير والتأثر يقول؛ إن التحول لمجرد أداة وظيفية لتصفية حسابات معقدة، ينتهي بأصحابها لمجرد بيادق يمكن تحريكها حسب أهواء ورغبات القوى الاستعمارية.
قدر المغرب والجزائر أن يواجها بعضهما بعضا في فترات السلم أو الحرب، أما الاعتقاد بأن اللعب على تناقضات الأوضاع الدولية المتوترة والمتغيرة لمحاولة إضعاف الطرف الآخر، فمجرد أوهام لا تقوى على الصمود. اختلال موازين
القوى ومعها القدرة على التأثير والتأثر يقول؛ إن التحول لمجرد أداة وظيفية لتصفية
حسابات معقدة، ينتهي بأصحابها لمجرد بيادق يمكن تحريكها حسب أهواء ورغبات القوى الاستعمارية،
التي لن تسمح اليوم أو الغد للمستعمرات بالنهوض، إلا بدفع فاتورة غالية ترهن
مستقبلها استنزافا في الثروات وتأجيجا للأحقاد والضغائن والمشاحنات.
أما ماكرون، فلا يزال في انتظار تأشير الرباط على زيارته
للمغرب، وهي زيارة طال انتظارها منذ أن صرح شخصيا بموعدها شهر تشرين الأول/ أكتوبر
الماضي، قبل أن يتغير الموعد إلى الربع الأول من السنة الحالية، كما جاء على لسان
المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية قبل أيام. وفي انتظار أن يتحقق له ما يريد،
ستستمر الحملة المعادية وستستثمر فيها كل الأوراق، لكن الأكيد أن فرنسا ماكرون لم
تعد مكانا يحج إليه الزائر بحثا عن النصيحة، بعد أن حوله إلى مجرد متجر لبيع
السلاح.