هكذا جزمت النائبة العامة الفرنسية لين بونيه ماتيس، وهي تقدم تصريحها بخصوص
الهجوم
الذي نفذه عبد المسيح وطعن خلاله ستة أشخاص، بينهم أربعة أطفال، في بلدة أنسي
بمنطقة جبال الألب. بدا الأمر غريبا في بلد لا يتورع فيه الساسة ورجال الإعلام والشرطة وباقي
الأجهزة الأمنية والقضائية بالدفع بـ"شبهة
الإرهاب" كلما تعلق الأمر
بهجوم ينفذه رجل من الشرق الأوسط أو دول المغرب الكبير، بلحية متدلية أو دونها.
عبد المسيح بدا في الصور المنشورة ملتحيا، وهو ما يجعل الشبهة ترتقي في الأذهان
لدى حماة الحرية والعلمانية لدرجة اليقين. فما الذي جعل الجميع يحجمون عن وصم
العملية بالفعل الإرهابي، واكتفوا بالحديث عن "اعتداء جبان" وعن
"صدمة أصابت الأمة"، وغيرها من التصريحات "الرخوة" التي لا ترتقى
لمستوى الجريمة التي طالت الأطفال؟
الرد بسيط، فالمنفّذ يحمل اسماً لم تعتد الأذن الفرنسية
على سماعه ولسانها يتحدث عن لاجئ أو مهاجر عربي. عبد المسيح كان كلمة السر، ومعه
تصريحات من حضروا الواقعة وأكدوا أنه صرخ "باسم المسيح" قبل تنفيذ
الاعتداء، ولم يصرخ بلازمة "الإرهابيين"، كلمة التوحيد أن الله أكبر.
الشرطة فصلت في موضوع الانتماء الديني للمهاجم حين أكدت العثور على صليب وكتاب
صلاة مسيحي أثناء القبض عليه، وهو ما كان أكده في ملف طلب اللجوء الخاص به في
فرنسا. المصالح الفرنسية رفضت طلب عبد المسيح، فتصدّر الرجل عناوين وتحليلات
الأخبار أياماً قليلة بعد القرار.
الشرطة فصلت في موضوع الانتماء الديني للمهاجم حين أكدت العثور على صليب وكتاب صلاة مسيحي أثناء القبض عليه، وهو ما كان أكده في ملف طلب اللجوء الخاص به في فرنسا. المصالح الفرنسية رفضت طلب عبد المسيح، فتصدّر الرجل عناوين وتحليلات الأخبار أياماً قليلة بعد القرار
ليس الإسلام إذن هو الدافع وراء
الهجمات التي تعرضت لها
فرنسا داخل ترابها الوطني وخارجه، كما دأب الساسة والإعلاميون على التأكيد عليه
دون هوادة طوال عقود. فرنسا تدفع كل مرة ثمن قراراتها التي تظهر كثيرا من العداء تجاه
المهاجرين واللاجئين، وكثيرا من العدوانية تجاه أبناء وبنات كثير من البلدان، حيث
نشرت قواتها العسكرية بداعي محاربة الإرهاب، بشكل ساهم في التذكير بالفظاعات التي
ارتكبتها القوات الفرنسية الغازية إبان فترة الاستعمار، وصنفها مؤرخوها في دائرة
"نقل الحضارة" إلى "الأهالي من السكان الأصليين الهمجيين".
نقل الحضارة تحول لدى الرئيس إيمانويل ماكرون، المتيّم
بالتاريخ وقصص الذاكرة ما لم تمس بـ"الشرف العسكري" لقوات أسلافه الاستعماريين،
إلى "نزع الحضارة" الذي تتعرض له فرنسا، في استعارة لتعبير المنظر الأيديولوجي
الجديد لليمين المتطرف، الكاتب رينو كامو، صاحب مفهوم "الاستبدال
الكبير" المؤطر للتوجه اليميني، الذي صار مسيطرا على طيف كبير من الطبقة
السياسية الفرنسية العاجزة عن تقديم الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتقهقر
النفوذ الفرنسي في المناطق المصنفة تقليديا بـ"التبعية" لفرنسا.
يتحدث كل هؤلاء عن تنامٍ متصاعد للوجود العربي الإسلامي
في فرنسا. المشكلة ليست في "العرب" أنفسهم بل في ديانتهم الانفصالية
التي لا تتوافق وأسس الجمهورية "العلمانية"، برغم كونها لا تستثني من
أسسها العامل المسيحي اليهودي المكوِّن للشخصية الفرنسية/ الأوروبية البيضاء. عبد
المسيح لا يختلف عن هذه الشخصية المفترضة إلا في انتمائه الجغرافي البعيد. أزمة
"اللجوء" الأوكراني كانت مناسبة "فاضحة" للتأكيد على سياسة
الكيل بمكاييل القرب والبعد والسحنة ولون العينين.
في العام 2015، وعلى خلفية الهجمات الإرهابية التي تعرضت
لها مدينة باريس وأودت بحيوات العشرات في المسارح والشوارع والمقاهي وعلى مقربة من
ملاعب الكرة، دخل مصطلح الإرهاب "الإسلامي" في متن الخطاب السياسي
الفرنسي. يومها تنادى ساسة فرنسا واجتمعوا، في حالة نادرة، بقصر فرساي، مستمعين
لخطاب الرئيس فرانسوا هولاند، وهو يعلن عن مجموعة من الإجراءات، التي كانت كلها
أمنية، لمواجهة ظاهرة الإرهاب واستهداف التراب الفرنسي من الداخل. لم يستطع هولاند
الاعتراف بأن العدو صار "داخليا" لأسباب متعلقة بفشل النموذج الفرنسي في
ما كانت تسميه سياسة "الاندماج" التي كانت في التطبيق سياسة
"إدماج" بالقوة لا تقبل بالاختلاف وتبغي القولبة الجاهزة سبيلا ومنهاجا.
في ذلك الخطاب أدخل هولاند، وتحت تصفيقات الجميع يسارا ويمينا ويمينا متطرفا، مفهوم
"الإرهاب الإسلامي" قيد التداول المجتمعي المفتوح.
بعد ما يقارب العشر سنوات، وبعد أن أعلن هولاند عن
"الندم" على اعتماده إجراء سحب الجنسية من "الفرنسيين"
المشكوك في تشددهم الديني، تطور الخطاب السياسي الفرنسي ليعلن ضمنيا أن عدو الدولة
"داخلي"، وإن استلهم بعضا من أفكاره واستورد بعضا من معاركه من خارج
البلاد. فجيرالد موسى دارمنان، وزير الداخلية الذي قضى جزءا غير يسير من وقته في
مطاردة الجمعيات الإسلامية الفرنسية وفي إغلاق المساجد التابعة لها، أو إبعاد بعض
من الأئمة والدعاة بداعي تبني "الانفصالية" كما فصّلها رئيسه ماكرون، لم
يتورع من الإعلان بشكل مباشر، لا لبس فيه، أن الخطر الداهم الذي تواجهه فرنسا هو
"
الإرهاب السني الإسلامي"، تم الإعلان في أمريكا في إطار مقارنة أولويات
البلدين في مواجهة تحديات الداخل من الجماعات والأفراد. لقد فصّل جيرالد دارمنان
بما لا يدع مجالا للشك؛ تصورا أمنيا بات يسيطر على العقل الأمني الفرنسي.
"الإرهاب السني الإسلامي" كعدو داخلي جامع لمختلف تلوينات المهاجرين واللاجئين الغالبين على التراب الفرنسي. الهجرة، ذلك الموضوع الذي استعاد مكانته كموضوع مفضل لدى المشرعين والحاكمين، عادت لتشكل المادة الدسمة التي يقتات منها المجتمع السياسي بفرنسا، بعد فترة انحسار تغولت فيها الدولة وتوحشت في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية
فـ"الإرهاب السني الإسلامي" كعدو داخلي جامع
لمختلف تلوينات المهاجرين واللاجئين الغالبين على التراب الفرنسي.
الهجرة، ذلك
الموضوع الذي استعاد مكانته كموضوع مفضل لدى المشرعين والحاكمين، عادت لتشكل
المادة الدسمة التي يقتات منها المجتمع السياسي بفرنسا، بعد فترة انحسار تغولت
فيها الدولة وتوحشت في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية من حركة السترات الصفراء،
مرورا بمعارضي لقاح كوفيد وانتهاء بحركات المعارضين لرفع سن التقاعد.
دارمنان الذي كان تحدث عن نزوع فرنسا في اتجاه "الوحشية"،
لم يخطئ إلا في نسبها للمجتمع المسلم هناك. فالوحشية هي السمة التي صارت غالبة على
فعل الدولة في مواجهة المواطنين لدرجة جعلت كثيرا من المثقفين المستقلين يحذرون من
انتقال وشيك إلى "الشمولية"، في ظل هيمنة الرئيس ماكرون المتنامية في
البلاد، وهو موضوع قد نعود له في لاحق المقالات.
وفي إطار هذا "الإجماع" على خطر "الإرهاب
الإسلامي السني"، كان طبيعيا ألّا يكون عبد المسيح إرهابيا واسمه يدل عليه.
ومثله لم تكن القوات الغربية إرهابية ولو دمرت الإنسان والطبيعة والحاضر والمستقبل،
أينما وطأت بيادة جنودها أرضا، في العراق وأفغانستان ومالي وبوركينافاسو وغيرها من
دول العالم، المصنف ثالثا، لتبرير احتلال أقطاره واستغلال ثرواتها وفرض الحكام
العملاء على رقاب العباد، بدعم عسكري، مباشر أو خفي، من القوى المهيمنة على العالم
أو الساعية لبسط سيطرتها واقتسام الكعكة مع المسيطرين. ومن يقول غير ذلك فهو
"الإرهابي" سليل "الإرهابيين"، واسمه وسحنته ورموزه الدينية ولون
عينيه دلائل اتهام لا يرقى الشك إليها.