أصدر مكتب مراقبة ومكافحة
الاتجار بالبشر في وزارة
الخارجية الأمريكية، تقريره للعام 2022، حيث صنف كعادته دول العالم ضمن مستويات عدة،
بناءً على مدى استيفائها للمعايير المعتمدة في مكافحة الظاهرة، والجهود المبذولة
طوال العام لمعالجة الاختلالات.
الدول العربية كان لها نصيب من التقييم؛ أظهر التقرير الأمريكي أن معظمها "لا يلبي الحد الأدنى من المعايير" مع
اختلاف في درجات السوء. تقرير الاتجار بالبشر واحد من
التقارير السنوية التي دأبت
وزارة الخارجية الأمريكية على إصدارها، وتشمل في عمومها قضايا
حقوق الإنسان. تلك
التقارير تحولت لسلاح "ناعم" تشهره أمريكا في مواجهة بقية دول العالم،
وتستخدمه وسيلة للإكراه في ما قد يفشل فيه الردع المسلح والعقوبات الاقتصادية
وغيرها.
في العالم العربي، تتسابق الدول للتباكي تارة على
التصنيف، أو إبداء الارتياح لتكرم المكتب الأمريكي على اعتبار الجهود المبذولة
للارتقاء في سلم المستويات أو الاحتفال بـ"اعترافه" بمنجزات الحكومات في
المجال. لم يختلف الأمر كثيرا هذه السنة، فالدول المنقوصة السيادة تسعى دوما
لاسترضاء "الكبار" وتقديم القرابين لهم قوانين على الورق أو إجراءات
ظرفية استثنائية، لعل قادتها وأنظمتها ينالون الرضا وينعمون بالاستقرار في كرسي
الحكم مجرد وكلاء لا سادة وحكاما.
يبدو الأمر في ظاهره اهتماما مبدئيا بحقوق الإنسان ورغبة أكيدة في صونها والتبشير بها في مختلف البلدان، لكن الواضح أن للعملة وجها آخر يجعل من التقارير المختلفة وسيلة للاتجار بقضايا وحقوق الناس؛ لأهداف سياسية آنية تحركها الرغبة في تكريس النفوذ السياسي أو المنافسة على استثمار الفرص الاقتصادية
استحلى الغرب، وفي مقدمته واشنطن ومختلف الهيئات الدولية
التي أنشئت على مقاس التشريعات الغربية وفهمها لحقوق البشر، المبادرة بفرض مفاهيمه
على بقية البلدان القابعة على هامش مراكز التأثير والقرار. يبدو الأمر في ظاهره
اهتماما مبدئيا بحقوق الإنسان ورغبة أكيدة في صونها والتبشير بها في مختلف البلدان،
لكن الواضح أن للعملة وجها آخر يجعل من التقارير المختلفة وسيلة للاتجار بقضايا
وحقوق الناس؛ لأهداف سياسية آنية تحركها الرغبة في تكريس النفوذ السياسي أو
المنافسة على استثمار الفرص الاقتصادية الممكنة والتمكين للشركات الكبرى العابرة
للقارات.
وعندما يقول وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في
مقدمة تقرير الاتجار بالبشر إن "المتاجرين بالبشر ينتهكون الحق الأساسي
للإنسان في الحرية"، فإنه يتغافل عن كون استخدام ما قد يبدو متفقا عليه على كونه
قضايا إنسانية، للضغط على الأنظمة أو المتاجرة بالمواقف، هو أقسى درجات انتهاك
الحق الإنساني في الوجود والعيش بحرية وكرامة وعدل. الزيارة الأخيرة لرئيسه جو
بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، أظهرت كيف أن الاتجار بالمبادئ والمواقف لا يزال
العملة الأكثر ربحية للولايات المتحدة؛ في مسعاها لتأمين "حقوق" شعبها
الأساسية في العيش على موارد بقية شعوب العالم وبأرخص الأثمان.
لقد كانت الحملة الانتخابية التي سبقت اختيار جو بايدن
"سيدا" للبيت الأبيض، فرصة للمرشح الديمقراطي للعب على وتر ما كان
يعتبره "خيانة" من سلفه للمبادئ الأساسية التي قامت عليها الولايات
المتحدة، وعلى رأسها نشر الديمقراطية وتكريس حقوق الإنسان. وكانت منطقة الشرق
الأوسط، باعتبارها خزان الثروات الذي لا ينضب وينبوع الديكتاتوريات الذي لا ينقطع،
المجال الجغرافي الأفضل لممارسة السجال الكلامي بين المرشحين.
لأزمة الطاقة العالمية أحكامها، ولأجندة التطبيع مع دولة الاحتلال التزاماتها التي لا تفرق بين ساكن جمهوري أو ديمقراطي للبيت الأبيض الأمريكي
ترامب يبين كيف كان أكثر الرؤساء في أمريكا تركيعا وحلبا
لدول المنطقة وثرواتها، مقابل الطبطبة على ديكتاتورييها المخضرمين والناشئين. أما
بايدن فرأى في الأمر تفريطا في المبادئ مع وعدٍ باسترجاع "الهيبة"
الأمريكية كقائدة لـ"العالم الحر"، ولو اقتضى الأمر تحويل دول محددة إلى
أمم "منبوذة" على هامش المجتمع الدولي. انتهى الأمر إلى إعلانه البقاء في
الشرق الأوسط مخافة أن يملأ منافساه الصيني والروسي الفراغ، فحكومات المنطقة لا
قدرة لها على التسيير والتدبير دون ولي أمر يحمي ويعلم ويضع الرؤى والمخططات.
جمع ترامب لتحقيق "رؤيته" قادة ومسؤولي أكثر
من خمسين دولة عربية وإسلامية في الرياض، ولأجل نفس الهدف جمع خليفته جو بايدن
عددا أقل بكثير في جدة وعلى أرض السعودية "المنبوذة" صاغرا، فلأزمة
الطاقة العالمية أحكامها، ولأجندة التطبيع مع دولة الاحتلال التزاماتها التي لا
تفرق بين ساكن جمهوري أو ديمقراطي للبيت الأبيض الأمريكي.
ومن أجل هاتين القضيتين المصيريتين لا بأس من المتاجرة
مرة أخرى بقضايا وأحلام وتطلعات الإنسان الشرق أوسطي، فهو في نظر السياسة
الأمريكية "أدنى" من الثبات على عهد الوفاء للمبادئ الإنسانية لأجل تمكينه
من التمتع بما سنته البشرية من قوانين؛ أرادتها كونية فصارت مجزأة تثار على إيقاع
الحاجة ومقاس الأزمات. فـ"الأمن والتنمية" ومعها التمتع بالحقوق أمر
قابل للتأجيل، أما عدادات محطات الوقود الأمريكية والغربية وتحريك الأسعار فيها
نزولا؛ فأمر لا يحتمل مزايدات حقوقية أو مطالبات مدنية أو دعوات تحقيق للعدل
وإرساء للحقوق.
"الأمن والتنمية" ومعها التمتع بالحقوق أمر قابل للتأجيل، أما عدادات محطات الوقود الأمريكية والغربية وتحريك الأسعار فيها نزولا؛ فأمر لا يحتمل مزايدات حقوقية أو مطالبات مدنية أو دعوات تحقيق للعدل وإرساء للحقوق
لقد صار موضوع قتل جمال خاشقجي وتقييم المخابرات
الأمريكية للجريمة والضالعين المحتملين فيها؛ أمرا من الماضي وخطأ يحدث في كل
البلدان، وصار بإمكان سفير السعودية الأسبق بواشنطن عادل الجبير التشكيك في
التقييم الأمريكي، ومعايرة الحليف الاستراتيجي بجرائمه في أبو غريب، وصار بإمكان
الإمارات اعتقال محامي القتيل المغدور، وهو مواطن أمريكي، في وقت انعقاد القمة دون
وجل أو مجرد تفكير في العواقب ما دامت لن تخرج عن كتابة التقارير وتدبيج البيانات.
كيف لا والإدارة الأمريكية نفسها بيضت ساحة الجيش الإسرائيلي من جريمة لم تجف دماء
ضحيتها بعد، وهي مواطنة أمريكية، اختارت البقاء في موطنها فلسطين لنقل حقيقة
اعتداءات ومجازر دولة الاحتلال قبل أن تسقط ضحية لها. جثة المغدورة هنا، وسلاح
الجريمة رصاصة ارتأت التكنولوجيا الأمريكية أنها غير قابلة للتحليل والجزم بمصدرها،
أياما فقط قبل زيارة رئيس إدارتها للكيان؛ ليعلن من مطار بن غوريون
"صهيونيته" وانتصاره للمواقف الإسرائيلية، في موقف لم يفاجئ إلا السلطة
الفلسطينية التي استعادت رصاصة الغدر، فربما تحتاجها لتزيين أحد المتاحف الشاهدة
على عجزها وهوانها.
الاتجار بقضايا البشر سياسة غربية أصيلة تصفق للإفراج عن
سجناء سياسة ورأي بالآحاد، وتنسى عشرات الآلاف القابعين بالسجون، وهو ما فتح شهية
رئيس الانقلاب بمصر ليواجه صحفيا في برلين قبل أيام، سأله عن وضع حقوق الإنسان في
ظل استبداده، بأن الإجابة هذه المرة ستكون مختلفة عن عهد سابق كان يتلعثم فيه للرد
ويسوق المبررات.
القلق الغربي لم يعد موجها لأنظمة الطغيان العربي، فهي المؤتمنة الصادقة على ضمان إمدادات الطاقة في عز أزمة غير مسبوقة فرضتها الحرب على أوكرانيا، وهي أيضا المستعدة دونما رقابة شعبية أو مساءلة قانونية ممكنة، أو خوف من تسريبات فاضحة لتمويل الصناعة العسكرية الغربية
لقد آن الأوان للطغاة أن يفخروا بما فعلوا؛ ويوجهوا
الدعوة لمن لا يزال في قلبه شك في الإنجازات ليدخلوا مصر إن شاء الله آمنين. هي
سياسة غربية أصيلة تغض الطرف عن التنكيل بالدستور التونسي الذي يفصل للعودة لحكم
الفرد، فهو أفضل من يعيد عقارب منسوب الحرية إلى الوراء. وهي سياسة أصيلة تجعل
فرنسا تفرش السجاد لمحمد بن زايد في أول زيارة خارجية، وهي "القلقة
للغاية" حيال اعتقالات طالت "مخرجين إيرانيين وشخصيات أخرى منخرطة في
الدفاع عن حرية التعبير في بلادها"، ما يؤشر على "تدهور مقلق في أوضاع
الفنانين في إيران".
القلق الغربي لم يعد موجها لأنظمة الطغيان العربي، فهي
المؤتمنة الصادقة على ضمان إمدادات الطاقة في عز أزمة غير مسبوقة فرضتها الحرب على
أوكرانيا، وهي أيضا المستعدة دونما رقابة شعبية أو مساءلة قانونية ممكنة، أو خوف
من تسريبات فاضحة لتمويل الصناعة العسكرية الغربية ومدها بأسباب تجنب الكساد
والبوار.
تلك سياسة غربية أصيلة في الاتجار بقضايا البشر ممتدة
لعقود، ولا يمكن لتقارير الخارجية الأمريكية السنوية تبييض ساحة من أسسوا لها
وكرسوها دليلا لا ريب فيه؛ يؤكد تورط أجهزتها في الإجهاز على طموحات الشعوب
وآمالها في العيش بحرية وكرامة وعدل وسلام.