هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"لن تقبل الحكومة بالمطلق حرق جثة مهاجر مغربي بفرنسا.. القطاع الحكومي المعنيّ يتابع الموضوع.. نرجو أن تقع مراجعة الحكم القضائي الابتدائي؛ لأن الأمر فيه مسّ واضح بكرامة المواطن المغربي وبشعور عائلته".
كان هذا ملخص تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، مصطفى الخلفي، في الثاني من شهر آب (أغسطس) من العام 2018، في أعقاب الاجتماع الأسبوعي للمجلس الحكومي. أربعة أيام فقط بعد تصريحات الخلفي، نفذت السلطات الفرنسية المختصة عملية حرق المواطن المغربي حسن النبيري، تنفيذا لحكم قضائي نهائي قضى بتسليم جثته لزوجته الفرنسية وتنفيذ ما اعتبرته وصيته الأخيرة بحرق جثمانه، في وقت أكدت فيه عائلة المتوفى أن ابنها "لا يحمل إلا الجنسية المغربية، وهو مسلم، وزوجته الفرنسية ترغب في حرق جثمانه، وهو ما لا يليق بنا كمسلمين، ويتنافى مع ديننا الحنيف وسنة رسوله العظيم"، في رسالة ناشدت فيها والدته ملك البلاد بقدر مناشدتها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التدخل لمنع تنفيذ العملية دون جدوى.
قيل يومها؛ إن وزير الخارجية والتعاون الدولي ناصر بوريطة وسفير المغرب لدى فرنسا التزما بمتابعة الملف الذي انتهى إلى ما انتهى إليه. وأكدت وسائل إعلام محلية أن السلطات المغربية أجرت اتصالات سياسية وديبلوماسية رفيعة؛ بحثا عن حل يحول دون حرق جثة مواطن مهاجر لمجرد "ادعاء" زوجته تنفيذ رغبته في إشعال النيران في جسده وفي قلب عائلته ومقربيه. رفضت العائلة يومها تلقي زيارة القنصل المغربي لتقديم "واجب" العزاء.
بعدها بأربع سنوات تقريبا، تستمر "المحرقة" بمدينة فرانكفورت الألمانية حيث بادرت السلطات إلى إحراق جثة المواطن المغربي عمر قيشوح في التاسع والعشرين من شهر كانون أول (ديسمبر) 2021 دون إخبار عائلته وذويه. وجدير بالذكر أن بعض الولايات الألمانية تلجأ إلى حرق جثث الموتى بدون هوية، أو ممن يصعب التواصل مع عوائلهم.
عمر كان يعيش في سكن اجتماعي تخصصه الدولة الألمانية لذوي الاحتياجات الخاصة، وهو بذلك شخص معروف الهوية والنسب والانتماء العائلي. لأجل ذلك، ناشدت الجالية المغربية بفرانكفورت ملك البلاد التدخل لمساعدة عائلة المتوفى في إجلاء الحقيقة بعد "تنصل" قنصلية المغرب بالمدينة من مهامها ومن مساعدة أهل الفقيد.
بعض الكتابات تحدثت عن احتجاج القنصلية العامة على عملية الحرق، وذهبت بعيدا في التحليل لإثارة السؤال حول تداعيات الحادث على مسار ترميم العلاقات بين برلين والرباط، الذي بدأ في الأسابيع الأخيرة بعد مرحلة "قطيعة" وجفاء دامت شهورا لأسباب لها علاقة بـ "المواقف العدائية" الألمانية لمصالح الرباط العليا، حسب بيانات الخارجية المغربية وتصريحات كوادرها.
بثينة الكردودي، القنصل العام بفرانكفورت، لم تفعل غير استقبال أخت عمر لتقديم "واجب" العزاء وإصدار بيان اعتبر العملية "سابقة من نوعها وانتهاكا سافرا للمساطر المعمول بها"، مع التأكيد أنها "لا تزال في انتظار رد السلطات الألمانية المختصة... حرصا منها على كرامة المواطنين المغاربة كافة في بلد إقامتهم".
انتهى البيان ،لكن معاناة المغاربة في المهجر باقية وتتمدد على طول جغرافيا "الشتات"؛ من الحرق في ألمانيا إلى القتل في مراكز الاحتجاز بليبيا ومخافر الشرطة البلجيكية. ففي بروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، انتهت حياة أيوب أيوبي بسبب تناوله جرعة زائدة من المخدرات، حسب رواية الشرطة البلجيكية، وبسبب التعنيف حسب عائلته التي تؤكد اطلاعها على صور لجثته أظهرت وجود كدمات وآثار تعنيف. المصالح القنصلية المغربية أعلنت عن مراسلتها سلطات بروكسيل بهدف التحقيق في أسباب الوفاة، في وقت تقول فيه العائلة إن القنصلية لم تقدم أية معطيات جديدة غير ترديد رواية الشرطة البلجيكية.
الدولة المغربية ومؤسساتها تعودت على ترك المغاربة الأحياء بالخارج، كما الداخل، ليواجهوا المصير المحتوم اعتقالا وسجنا وإخفاء أو قتلا واغتيالا. وأي محاولات لتسويق عمل ديبلوماسي يسعى لضمان الحقوق مجرد لعب في الوقت الضائع، لا أفعال على أرض الواقع تؤكده أو تدعم روايات مدّعيه.
أما في ليبيا، فقد كشفت منظمة رصد الجرائم الليبية عن توثيقها مقتل عبد العزيز الحرشي وحمزة غدادة ومحمد عطة، وهم ثلاثة من مئات المعتقلين المغاربة في مختلف مراكز الاحتجاز المنتشرة في ربوع الأراضي الليبية الممتدة. في منطقة الماية غرب طرابلس، وفي مركز يشرف عليه جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، كانت محطة النهاية للمغاربة الثلاثة في وقت يتوافد فيه حجيج الساسة الليبيين من شرقها وغربها لعقد اللقاءات والمؤتمرات بأرض المغرب، وسط حفاوة رسمية لا تخطئها العين، دون أن تحرك الخارجية المغربية ساكنا للبحث في مآل وأوضاع مئات من مواطنيها، يذوقون مرارة التنكيل والتعذيب والابتزاز والتقتيل والاتجار بالبشر، كما وثقتها نداءات استغاثة مصورة لم تكن غير صيحة في واد.
الدولة التي لم تستطع حماية ثلاثة أطفال أفارقة من تفحم أجسادهم الصغيرة يوم الثلاثاء الماضي في مأوى، كان يضمهم ووالدتهم النيجيرية، بغابة غوروغو شمال البلاد في انتظار مرورهم للضفة الشمالية من الفضاء المتوسطي، لا يمكنها رفع صوتها في مواجهة دول أخرى لا تقل عنها جرما دفاعا عن مواطنيها، أو طلب تحقيقات تفضي للحقيقة ومتابعة الجناة.
حرق المغاربة ليس بالأمر الجديد ولا بالفعل الخارجي استثناء، فقد عاشته البلاد مع فاجعة معمل روزامور بالدار البيضاء سنة 2008، حيث قضى ست وخمسون عاملا وعاملة نحبهم محترقين أو مختنقين بسبب انعدام شروط السلامة وتواطؤ السلطات المحلية وغياب المراقبة، تلتها أحكام بأربع سنوات حبسا نافذا في حق صاحب شركة صناعة الأفرشة، وسنتين لابنه المسؤول عن إدارتها.
وتكررت الفاجعة مع حافلة كانت تنقل أطفالا شاركوا في مسابقة رياضية مدرسية، وانتهت محترقة بعد ارتطامها بشاحنة صهريج لنقل البنزين مخلفة خمس وثلاثين ضحية في العام 2015، لينتهي التحقيق إلى حفظ المسطرة لوفاة سائقي المركبتين.
الدولة المغربية ومؤسساتها تعودت على ترك المغاربة الأحياء بالخارج، كما الداخل، ليواجهوا المصير المحتوم اعتقالا وسجنا وإخفاء أو قتلا واغتيالا. وأي محاولات لتسويق عمل ديبلوماسي يسعى لضمان الحقوق مجرد لعب في الوقت الضائع لا أفعال على أرض الواقع تؤكده أو تدعم روايات مدّعيه.
الواضح أن المغرب الرسمي قد استقال من مهمة الدفاع عن الشرف وتحول لمجرد متفرج ينتظر من الأفراد ومختلف جمعيات المجتمع المدني الذود عن حقوق المغاربة والمغربيات أحياء وأمواتا.
إعادة القتلى والمحروقين إلى الحياة معجزة لا قبل للدولة أن تحققها في الداخل والخارج على حد سواء. لكن العمل على إحقاق العدل وبيان الحقيقة واجب يعلو على "واجب" تقديم العزاء. فالقنصليات والسفارات مدعوة لتمتين الحياة الكريمة والسعي، ما أمكن لضمانها لـ"الرعايا"، لا التحول لمجرد حفار قبور أو ناقل جثث الموتى أو ما قد يتبقى منها. والدفاع عن كرامة المغاربة تبدأ مع الأحياء ولا تتوقف عند من يسلمون الروح لبارئها. أعراض المغربيات مستباحة منذ سنوات في تصريحات وتعليقات الكثير من "الأشقاء" قبل الأعداء. والقوانين والقنوات الديبلوماسية كلها طرق مشروعة للطعن في المتطاولين والمطالبة بمحاسبة المعتدين.
لكن الواضح أن المغرب الرسمي قد استقال من مهمة الدفاع عن الشرف، وتحول لمجرد متفرج ينتظر من الأفراد ومختلف جمعيات المجتمع المدني الذود عن حقوق المغاربة والمغربيات أحياء وأمواتا.
عندما بيّت كفار قريش النية على اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، اختاروا من كل قبيلة رجلا، حتى يتوزع دمه الطاهر على قبائل عدة، فتعجز قريش عن الأخذ بثأره، وهي وحيدة، فرابطوا عند باب داره طوال الليل بانتظار أن يخرج لصلاة الفجر. كانوا قادرين على تسوّر منزل النبي، ولكنهم لم يفعلوا، ليس خشية منه، ولكن سترا لبناته، حتى إن أحدهم اقترح اقتحام بيت النبوة، فرد عليه أبو جهل معنّفا: أتريد أن تقول العرب عنا أنا تسورنا الحيطان وهتكنا ستر بنات محمد؟
في زمن الجاهلية الجديدة، نرى من لا يتورع عن وصم نساء ورجال أمة جذورها ضاربة في التاريخ بالعهر وهو أهل له إن ثبت عليه فعله، دون أن يناله من التحقيق والعقاب ما يستحق ودون أن يوضع الرأي العام في الصورة احتراما.
كفار قريش كانوا يملكون نخوة ورجولة تمنعهم من اقتحام بيت وهتك ستر من فيه من نساء. لكننا في زمن الجاهلية الجديدة، نرى من لا يتورع عن وصم نساء ورجال أمة جذورها ضاربة في التاريخ بالعهر وهو أهل له إن ثبت عليه فعله، دون أن يناله من التحقيق والعقاب ما يستحق ودون أن يوضع الرأي العام في الصورة احتراما.
في فرنسا، كشفت صحفية منذ أيام تعرضها لمحاولة اعتداء جنسي قبل عشر سنوات "بطلها" واحد من أشهر مقدمي البرامج الحوارية التي يتسابق الفاعلون السياسيون وغيرهم للمشاركة فيها؛ احتراما للجمهور وسعيا لضمان شروط التحقيق الشفاف، مُنِع جاك بوردان من الظهور على الشاشة وعلى أمواج الإذاعة وأُخبِر الرأي العام بالقرارات في احترام تام لمبدإ البراءة حتى إثبات عكسها. أما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، جو بايدن، فقد بادر بالاتصال بمراسل شبكة فوكس نيوز، بيتر دوسي، بعد أن نعته بـ "ابن العائرة" معتذرا، فيما حفظت فيه الشتيمة الرئاسية في محضر الجلسة الرسمي.
تلك أخلاق الفرسان الغائبة عنا ونحن الأهل لها أو هذا ما نعتقده على الأقل.