قبل أيام من شروع إثيوبيا في الملء الثاني لسد النهضة، صدرت قرارات في
مصر تتعلق ببناء ثمانية
سجون جديدة في أربع محافظات مصرية. ويبدو أن النظام قد استغل تلك اللحظة الحرجة؛ فقرر مضاعفة معاناة المصريين - الذين باتوا على وشك العطش بسبب سجن إثيوبيا المائي - ببناء مزيد من السجون تحرمهم حريتهم وتسلبهم حقوقهم.
وإذا كان للسد آثاره المدمرة، بسبب دوره في حجز عنصر الحياة الرئيس من خلفه؛ فمصر تعاني على مدار سنوات من حجز فلذات أكبادها وتغييبهم خلف القضبان لسنوات طوال. فلا فرق كبيرا إذا بين نظامي مصر وإثيوبيا عند النظر إليهما من زاوية الخطورة على الشعب المصري ومقدراته؛ فهناك ما يشبه التطابق في وجهات النظر بينهما لإفقاره وتجويعه وحرمانه من حريته.
لا فرق كبيرا إذا بين نظامي مصر وإثيوبيا عند النظر إليهما من زاوية الخطورة على الشعب المصري ومقدراته؛ فهناك ما يشبه التطابق في وجهات النظر بينهما لإفقاره وتجويعه وحرمانه من حريته
قرار وزير الداخلية إنشاء ثمانية سجون مركزية جديدة بمحافظات الفيوم وأسوان وكفر الشيخ والغربي، لم يأت من فراغ، وإنما جاء معبرا تماما عن سياسة واضحة لمنظومة القهر التي تتحكم في مصير الشعب المصري منذ انقلاب تموز/ يوليو 2013، عبر التوسع الدائم في إنشاء السجون ومقار الاحتجاز من أجل إخراس الألسنة، التي قد يصدر عنها شيئا مغايرا لما تبثه آلة النفاق الجبارة بالأذرع الإعلامية.
تحكي بعض فصول التاريخ عن سقوط سجن الباستيل، وتعتبره بمثابة الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، حتى تحول إلى يوم وطني لفرنسا تحتفل به في 14 تموز/ يوليو من كل عام، تعبيرا عن انتهاء زمن الحكم المطلق وقمع الحريات.
المفارقة الغريبة أن عدد سجناء الباستيل - الذي كان مخصصا للمعارضين السياسيين - بلغ قرابة 6000 منذ إنشائه في عام 1370 تقريبا وحتى سقوطه في عام 1789، في حين تشير بعض التقديرات إلى وجود 65 ألف معتقل سياسي في السجون المصرية حاليا، يعاني كثير منهم من مختلف أنواع الظلم والقهر التي لا تخطر على قلب بشر.
المفارقة الغريبة أن عدد سجناء الباستيل - الذي كان مخصصا للمعارضين السياسيين - بلغ قرابة 6000 منذ إنشائه في عام 1370 تقريبا وحتى سقوطه في عام 1789، في حين تشير بعض التقديرات إلى وجود 65 ألف معتقل سياسي في السجون المصرية حاليا
ربما لا يرى البعض غضاضة في إنشاء سجون جديدة لاستيعاب السجناء الجنائيين كما يدعي النظام، الذي ينفي دائما وجود سجناء سياسيين في مصر، لكن الأرقام الصادرة عن بعض المنظمات الحقوقية تؤكد أن عدد السجناء الجنائيين يبلغ 54 ألف سجين، وهو رقم تستوعبه الليمانات والسجون العمومية التي كانت موجودة قبل عام 2011، بواقع 43 سجنا في مختلف المحافظات المصرية، والتي تتنوع بين ليمانات، وسجون عمومية، وسجون مركزية، وسجون خاصة.
وبالنظر إلى قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956، المعمول به حاليا، والذي نص في المادة الثانية من الفصل الأول على تنفيذ الأحكام الصادرة بعقوبة السجن المؤبد على الرجال في الليمان، فيما أكدت المادة الثالثة على تنفيذ الأحكام في المحكوم عليهم بعقوبة السجن، أو بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، والنساء المحكوم عليهن بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد بسجن عمومي، كما أوضحت المادة الرابعة أن السجن المركزي يختص بتنفيذ الأحكام في الأشخاص الذين لم يرد ذكرهم في المادتين السابقتين.. بناء على تلك اللائحة، يتضح أن تنفيذ الأحكام الخاصة بالجنائيين يجري في معظم الأحوال بالليمانات والسجون العمومية، بينما تستوعب السجون المركزية المدانين بجرائم مالية والمحبوسين احتياطيا، وهو ما يطرح عددا كبيرا من علامات الاستفهام بسبب التوسع في بناء تلك السجون عوضا عن السجون المخصصة للجنائيين.
ربما تزول علامات الاستفهام بعد معرفة عدد المحبوسين احتياطيا، والذي يقدر بـ37 ألفا من المواطنين، الذين يتعرضون لتنكيل متواصل بسبب تدويرهم على ذمة قضايا جديدة عند تجاوزهم الحد الأقصى لمدة الحبس الاحتياطي، والتي تبلغ عامين، حتى أن بعض الإحصاءات تشير إلى عدم تنفيذ قرارات إخلاء السبيل التي صدرت بحق السجناء منذ مطلع هذا العام بنسبة 90 في المائة. وعادة ما يجري إخفاء هؤلاء قسريا بأماكن مجهولة في معسكرات الأمن المركزي أو مقرات الأمن الوطني، قبل إظهارهم في النيابة بملابس مدنية وأمر قبض بتاريخ يسبق ظهورهم بيوم أو يومين.
وفي إحصائية صدرت عن منظمة حقوقية، أشارت إلى تدوير 2500 معتقل على ذمة قضايا جديدة في محافظة الشرقية فقط منذ بداية العام الجاري 2021، وصلت في بعض الحالات إلى خمس أو ست قضايا للمعتقل الواحد، وهي أرقام مفزعة تعطي مؤشرات لواقع الحال في مصر، ويمكن أن تكون نموذجا لما يحدث من
انتهاكات متكررة في سائر المحافظات.
هذا السباق المريب في إنشاء السجون والذي بلغ ذروته مؤخرا بواقع 35 سجنا منذ عام 2011، يعطي انطباعا عن واقع الحال في مصر بعد الانتكاسة التي أصابت ثورة يناير
هذا السباق المريب في إنشاء السجون والذي بلغ ذروته مؤخرا بواقع 35 سجنا منذ عام 2011، يعطي انطباعا عن واقع الحال في مصر بعد الانتكاسة التي أصابت ثورة يناير. ومع غياب الرقابة والإشراف القضائي، تحولت السجون من دار إصلاح تنفذ بها العقوبات السالبة للحرية طبقاً لأحكام القانون وتهدف إلى رعاية وتأهيل المحكوم عليهم اجتماعياً وثقافياً، إلى وسيلة لتكميم الأفواه وكتم الأصوات والتنكيل بالمعارضين السياسيين.
إن زيادة أعداد السجون لاستيعاب أكبر عدد من المعارضين لن يحل مشكلات الوطن، ولن يضفي على النظام الحالي الشرعية المفقودة، أو يمنحه الأمن المطلوب الأمن، والحل الوحيد لتلك الأزمة يكمن في إطلاق الحريات، وتنفيذ أحكام القضاء والنيابة العامة، وإيقاف سياسة التنكيل المتواصل بالمواطنين، وتلك حقوق يأخذها الشعب ولا يمنحها النظام.