مع تواصل أعمال المناورات العسكرية المشتركة (حماة النيل1) بين
مصر والسودان (26-31 أيار/ مايو)، والتي تمثل رسالة خشنة لإثيوبيا من كلتا الدولتين، ردت أديس أبابا بمزيد من التحدي عبر تحريك قوات مسلحة من عرق الأمهرا إلى الحدود
السودانية، لكن الرد الأهم والذي كشف عنه (الثلاثاء الماضي) كبير المفاوضين السودانيين في ملف السد، مصطفى حسين الزبير، خلال مؤتمر صحفي، أن إثيوبيا بدأت بالفعل
الملء الثاني للسد، لم تنتظر إثيوبيا إذن الموعد الذي ضربته سلفا لهذا الملء الثاني وهو شهر تموز/ يوليو، ولكنها استغلت فيضانا زائدا في المياه لتبدأ الملء دونما أي تنسيق مع الجانبين المصري والسوداني اللذين يستعرضان قواتهما على حدودها ليمنعاها من تلك الخطوة.
في الثلاثين من آذار/ مارس الماضي بلغ الموقف المصري ذروته بإعلان السيسي أن مياه النيل خط أحمر، وهو ما أعطى انطباعا بأن مصر مقبلة على حرب دفاعا عن حقها في المياه، وتعزز هذا الاعتقاد بتسيير القوات الجنوبية للمشاركة في المناورة المشتركة مع السودان برا وبحرا وجوا، وبجملة من التحركات السياسية نحو دول الجوار الإثيوبي، وكان آخرها زيارة السيسي لدولة، جيبوتي المتنفس الوحيد لإثيوبيا على البحر الأحمر.
ثمة تطور مفاجئ وجديد على خط أزمة سد النهضة، وهو الوساطة القطرية بين الأطراف المتنازعة، وهي وساطة قابلة للنجاح بحكم ما تتمتع به الدوحة من علاقات جيدة بكل الأطراف، على خلاف الوساطة الإماراتية التي فشلت سريعا
لكن تصريحات الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوربي بأنه "ليس هناك حل للأزمة عبر الضغط أو التدخل أو الحل العسكري"، صبت ذنوبا من الماء البارد فوق التصريحات الملتهبة المصرية السودانية، لتغلق الطريق أمام الحل العسكري، وهو ما استبقه وزير الخارجية المصري سامح شكري بأن الملء الثاني لن يمثل ضررا، أي أنه لن يكون كسرا للخط الأحمر، ولم تفلح تصريحات وزير الري المصري التالية أو حتى تصريحات شكري المعدلة في محو آثار التصريح الأول؛ الذي ضمته إثيوبيا لقائمة حججها القانونية والسياسية.
ثمة تطور مفاجئ وجديد على خط أزمة
سد النهضة، وهو الوساطة
القطرية بين الأطراف المتنازعة، وهي وساطة قابلة للنجاح بحكم ما تتمتع به الدوحة من علاقات جيدة بكل الأطراف، على خلاف الوساطة الإماراتية التي فشلت سريعا، واضطرت أبو ظبي لسحبها بعد رفض السودان علنا لها.
لم تعد الإمارات محل ثقة حتى من نظام السيسي نفسه، وهي التي مثلت الكفيل الرئيسي له منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وهي التي أغدقت عليه أموالها، وحركت لدعمه كل أذرعها السياسية والإعلامية والدبلوماسية والحقوقية.. الخ، وهو ما فعلته أيضا مع النظام السوداني الجديد بعد حراك 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018. في الحالتين كان للإمارات أهدافها الخاصة التي حققت بعضها، ولا تزال تسعى لتحقيق بقيتها.
لم تعد الإمارات محل ثقة حتى من نظام السيسي نفسه، وهي التي مثلت الكفيل الرئيسي له منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وهي التي أغدقت عليه أموالها، وحركت لدعمه كل أذرعها السياسية والإعلامية والدبلوماسية والحقوقية.. الخ، وهو ما فعلته أيضا مع النظام السوداني
فقد نجحت في المهمة الأولى وهي إقصاء الإسلاميين من الحكم في البلدين (لم تكن وحدها صاحبة هذا الجهد أو ذاك الهدف)، ولكنها لم تكتف بهذا الأمر بل سعت لبسط نفوذها السياسي على النظامين المصري والسوداني، وهو مأ أوقعها في صدام مستتر معهما، وزاد الطين بلة جملة من التحركات الإماراتية بالتنسيق المباشر أو غير المباشر مع الكيان الصهيوني تمثل أضرارا مباشرة أو غير مباشرة أيضا لكلتا الدولتين (مصر والسودان)، وآخرها إقامة قاعدة جوية في مدخل باب المندب عند جزيرة ميون اليمنية، والخلاصة أنها لم تعد وسيطا مقبولا في أزمة السد.
فشل الوساطة الإماراتية من ناحية، واحتدام التحركات السياسية والعسكرية بين أطراف الأزمة من ناحية ثانية فتح الباب
للوساطة القطرية، وخاصة بعد زيارة وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن إلى القاهرة ولقائه بالسيسي وكبار مساعديه، بعد زيارته للسودان ولقائه مع وزيرة خارجيتها مريم المهدي، ثم استقباله لاحقا في الدوحة وزير الشئون الخارجية الإثيوبي.
وفي اعتقادي فإن الوساطة القطرية قد تتمكن من توفير ورقة التوت التي تستر كل الأطراف، فنظام السيسي افتقد كل الأوراق بعد أن ألقى بآخرها وهي المناورات العسكرية التي سمحت بنقل القوات العسكرية المصرية إلى الحدود الإثيوبية مباشرة، ولكن يده أصبحت مغلولة عن توجيه ضربة عسكرية - لطالما دغدغ بها عواطف المصريين - بعد التحذيرات الأمريكية والأوروبية، كما أن تحركاته السياسية مع دول الجوار الإثيوبي جاءت متأخرة بعد فوات الأوان، وقد زادت إثيوبيا في تحديها له ببدء الملء الثاني حسب تصريحات المسؤول السوداني التي لم تنفها أديس أبابا.
لم يعد في قوس السيسي منزع، سوى أن يقبل ترضية رمزية تحفظ ماء وجهه أمام أنصاره، وقد توفرها الوساطة القطرية عبر اتفاق شكلي على تنسيق مشترك في إدارة المياه مستقبلا، يجعل لإثيوبيا اليد العليا، أو عبر تعهد رمزي جديد من آبي أحمد (على شاكلة قسمه السابق بأن لا يوقع ضررا بمصر)، أو ربما زيادة فترة الملء بما يخفف الأضرار على مصر ولو قليلا. ولو حدث ذلك فإن أذرع السيسي الإعلامية ستحوله إلى نصر مبين أمام الشعب المصري غير القادر على التعبير عن غضبه بسبب القبضة الأمنية.
لم يعد في قوس السيسي منزع، سوى أن يقبل ترضية رمزية تحفظ ماء وجهه أمام أنصاره، وقد توفرها الوساطة القطرية عبر اتفاق شكلي على تنسيق مشترك في إدارة المياه مستقبلا، يجعل لإثيوبيا اليد العليا
وقد تنجح الوساطة القطرية في تهدئة الأمور على الجبهة السودانية الإثيوبية الملتهبة، عبر اتفاق تهدئة يتم بمقتضاه إقرار وجود القوات السودانية في منطقة الفشقة التي دخلتها خلال الفترة الماضية. وللعلم فالسودان ليس متضررا من السد مثل مصر، لكنه دخل حالة التصعيد دعما للموقف المصري.
أما إثيوبيا فيكفيها من الوساطة القطرية أنها ستخرج من المولد بإقرار الجميع للملء الثاني دونما اتفاق مسبق، كما أنها ستتخفف من الضغوط المصرية والسودانية وتتفرغ لإكمال مهمتها في تعلية السد وملئه، وتشغيله وتجهيز مشروعاتها التنموية المقبلة، وستكون الفرصة سانحة بالتأكيد للاستثمارات القطرية لضخ المزيد في هذه المشروعات.
وأما الشعب المصري فله رب يحميه.. يطعمه ويسقيه.
twitter.com/kotbelaraby