هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يزال الصراع على نهر النيل بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى؛ محتدما، حتى إذا تم التوصل إلى اتفاق بشأن ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، فإن خسائر مصر لن تعوض.
يظهر الصراع بين مصر وإثيوبيا بوضوح فشل عرض مصر التهديد بالقوة العسكرية لحماية أمنها المائي. في عهد الرئيس أنور السادات حذرت القاهرة بالفعل من الحرب إذا تعرضت إمدادات المياه لمصر للخطر من قبل دول المنبع، كما لم يستبعد الرئيسان حسني مبارك ومحمد مرسي العمل العسكري، فقط في عهد عبد الفتاح السيسي تم التخلي عن خطاب التهديد بالحرب، لقد استبعد صراحة مؤخراً إمكانية حمل السلاح لحماية أمن مصر المائي، والدليل اقتراب موعد الملء الثاني لسد النهضة ولا يوجد مجرد تهديد بالحرب.
لكن على ما يبدو أن حالة الصمت المصرية مع اقتراب موعد الملء الثاني تتجه للتهدئة والاعتراف بواقع السد الإثيوبي. لم يكن لدى مصر منذ وصول عبد الفتاح السيسي أي خيار عسكري في أزمة سد النهضة، رغم امتلاكها الأدوات العسكرية التي يمكن من خلالها القيام بعمل عسكري ضد السد الإثيوبي، خصوصاً عندما كانت الضربة الجوية خياراً عسكرياً واقعياً وسهلا لوقف بناء السد في السنوات الأولى.
ومع ذلك، فإن صراع النيل يعد أيضاً هزيمة لسياسة التحالفات المصرية في عهد عبد الفتاح السيسي، حيث قامت مصر في السنوات الأخيرة بتنويع علاقاتها الخارجية بقوة، وكانت تركز في السابق على الولايات المتحدة وأوروبا. فقد دخلت في شراكة اقتصادية وأمنية وثيقة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، كما عززت علاقاتها مع جمهورية الصين الشعبية وروسيا، بالإضافة إلى ذلك، وسعت شراكتها الأمنية الطويلة الأمد مع إسرائيل.
هذا التنويع في السياسة الخارجية المصرية لم يجد في الصراع مع إثيوبيا حول أزمة السد، فالسعودية والإمارات تحافظان على علاقات اقتصادية وثيقة مع إثيوبيا، وليس لديهما النية لإلحاق الضرر بها من خلال الانحياز إلى جانب مصر. وينطبق الشيء نفسه على الصين، التي تشارك في توسيع البنية التحتية للكهرباء في إثيوبيا من خلال عقود بمليارات الدولارات. وليس لروسيا أي تأثير على الحكومة الإثيوبية وتحاول تطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية معها، كما زودت إسرائيل إثيوبيا بنظام الدفاع الصاروخي الذي يحمي السد الآن من الهجمات الجوية.
ومع ذلك من المحتمل أن تكون استراتيجية تنويع السياسة الخارجية المصرية سبباً ضاراً بالعلاقات مع شركائها التقليديين، خصوصاً الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. اللافت للنظر أن دول الاتحاد الأوروبي التي تحاول منذ سنوات تحسين التعاون بين دول حوض النيل في إطار مبادرة حوض النيل؛ أبدت قليلا من الاهتمام بجولات المفاوضات الأخيرة.
والأكثر إثارة للدهشة هو ضبط النفس الذي تمارسه الولايات المتحدة، حيث حاول الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" التوسط وكان يميل إلى دعم الموقف المصري، ومع ذلك لم يضع أي ثقل سياسي في حل الصراع بعد المرحلة الأولى من ملء خزان السد، وفشلت مفاوضات سد النهضة التي كانت برعاية الأمريكية عام 2019. نعم كانت الولايات المتحدة أوقفت بعض المساعدات لإثيوبيا في أوائل أيلول/ سبتمبر 2020، ومع ذلك من غير المرجح أن تتغير استراتيجية ضبط النفس الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الجديد "جو بايدن" في ما يتعلق بإكمال السد والاستمرار في الملء الثاني لخزان السد.
فعدم قدرة مصر على حشد الإدارة الأمريكية للعمل لصالحها لا يُعزى فقط إلى العلاقات الجيدة بين واشنطن وإثيوبيا، ولكن أيضاً إلى تطور علاقات مصر مع روسيا والصين، على الرغم من عبارات الرئيس الأمريكي السابق ترامب عن تعاطفه مع نظام عبد الفتاح السيسي. فقد تدهورت العلاقات المصرية الأمريكية في الآونة الأخيرة إثر شراء مصر لطائرات مقاتلات روسية، مما أغضب الولايات المتحدة، لن تكون واشنطن مستعدة للانحياز لنظام السيسي.
فعلى مدى عقود عارضت القاهرة أي توسع في البنية التحتية للمياه على الروافد العليا للنهر، ومع ذلك لم تتمكن مصر من منع بناء السدود في إثيوبيا، فأكثر من 85 في المئة من مياه النيل المصرية تأتي من المرتفعات الإثيوبية.
ستكون لهزيمة مصر في صراع مياه النيل مع إثيوبيا تداعيات إقليمية وداخلية خطيرة، الأمر الذي قد يشجع الدول الأخرى على الروافد العليا لنهر النيل على توسيع بنيتها التحتية المائية أيضاً.
فمشاريع بناء السدود في السودان على سبيل المثال، يمكن أن يصبح تحدياً للسياسة الخارجية للقاهرة أكبر بكثير من سد النهضة، لذلك تميل القاهرة لزيادة وزنها الإقليمي من خلال إنشاء قواعد عسكرية في جوارها الجنوبي، ونظراً لأن خزائن الدولة المصرية فارغة بالإضافة إلى قلة الدعم المخصص لمصر من الدول الصديقة، ما سيثير استفزاز سكان باقي دول أعالي النيل للإسراع بتوسيع البنية التحتية المائية لديهم.
في 15 تموز/ يونيو 2021 بناء على طلب من مصر والسودان عقدت الجامعة العربية اجتماعا طارئا في الدوحة، والذي يعتبر الأول بعد استعادة العلاقات الدبلوماسية بين قطر والمملكة العربية السعودية ومصر وحلفائهما لمناقشة أزمة سد النهضة الإثيوبي والأمن القومي العربي.
لكن في الواقع تتصاعد التوترات بين مصر والسودان من جهة وبين إثيوبيا من جهة أخرى حول أزمة سد النهضة، بسبب نية أديس أبابا لإكمال المرحلة الثانية من ملء خزان السد دون اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث حول عملية ملء وتشغيل السد الإثيوبي.
فقد كانت إدارة مياه النيل الأزرق مصدر خلاف سياسي طويل الأمد بين الدول الثلاث. فبالنسبة لإثيوبيا فإن السد محاولة للتنمية واستكمال أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، ويجسد آمال الشعب الإثيوبي لتوليد الطاقة والتنمية الاقتصادية الواسعة. وفي المقابل ترى مصر في هذا المشروع تهديدا وجوديا من الممكن أن يهدد أمنها ومكانتها ووجودها في المنطقة، في حين أن تأثير السد الإثيوبي على السودان سيكون أقل ضررا، بل إن هناك عروضا إثيوبية على السودان للاستفادة من السد الإثيوبي من خلال الكهرباء التي يحتاج لها السودان ويستورد جزءا كبيرا منها من مصر.
لقد تعثرت الجولات السابقة من المحادثات التي عقدت في نيسان/ أبريل 2021 بوساطة الاتحاد الأفريقي، بعد أن رفضت أديس أبابا مطالبة دولتي المصب (مصر والسودان) بإشراك وساطة دولية للمساعدة في تسوية النزاع.
لكن في العاصمة القطرية، أصدر ممثلو الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية والبالغ عددها 22 دولة؛ بياناً دعا مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ جميع "الإجراءات الضرورية لبدء عملية تفاوض للتوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث". ومع ذلك رفضت السلطات الإثيوبية القرار برمته، وألقت باللوم على مصر والسودان في تسييس وعرقلة مفاوضات السد وتحويل "المشكلة الأفريقية" إلى قضية عربية. ونتيجة لذلك فإن الجهود الأخيرة التي بذلتها دولتا المصب (مصر والسودان) للتوصل إلى اتفاق لملء سد النهضة تمر بمأزق كبير مع اقتراب موعد الملء الثاني لخزان السد كما أعلنته الإدارة الإثيوبية في تموز/ يوليو 2021.
الصراع بين مصر وإثيوبيا يتجاوز قضية سد النهضة
منذ قمة الدوحة الأخيرة التي استضافتها قطر، برزت نقطتان رئيسيتان تتعلقان بمسألة سد النهضة:
النقطة الأولى: الضغط الذي مارسته مصر على جامعة الدول العربية لدعم تحريك قضية سد النهضة باتجاه الأمم المتحدة، لبدء محادثات جديدة بعد انهيار المحادثات التي تبناها الاتحاد الأفريقي.
النقطة الثانية المثيرة للقلق هي أن الثنائي المصري السوداني مستعد لقبول صفقة مؤقتة وجزئية مع إثيوبيا لتنظيم عملية ملء وتشغيل سد النهضة.
فالتنافس بين مصر وإثيوبيا في الواقع يتجاوز قضية سد النهضة، ففي الخلفية تبقى الإمارات العربية المتحدة التي تتمتع بنفوذ كبير في الدول الثلاث، حيث أدى التحول الاستراتيجي الناتج عن تطورات حرب اليمن إلى تفضيل الإمارات المبادرات الدبلوماسية الجديدة في القرن الأفريقي.
ومع ذلك فإن سير الحرب الأهلية المستمرة في إقليم تيجراي الإثيوبي والتعنت على قبول الوساطة الإماراتية بشأن سد النهضة، تسبب في تعقيد العلاقة بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وأبو ظبي وشابها نوع من البرود السياسي. وعلى الجانب الإماراتي هناك انزعاج من التعنت الإثيوبي في التعامل مع الخلاف الحدودي مع السودان، حيث كانت أبو ظبي فاعلا رئيسا في الوساطة في هذه القضية، حيث رغبت الإمارات في الضغط على آبي أحمد على أمل إقناعه بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وهي الخطوة التي قد يفعلها بعد الانتخابات الحالية في إثيوبيا، وهذا من شأنه أن يمهد الطريق لاتفاق كان من الصعب الوصول إليه، مما يعزز صورة الإمارات كوسيط جيد لا سيما أمام حليفتها الولايات المتحدة.
السياسة الخارجية المزدوجة للسودان "السلطات المدنية والعسكرية":
في ظل حكم عمر البشير، انحاز السودان أكثر إلى إثيوبيا، وبعد أن عارض السد في البداية، أعلن البشير في عام 2012 دعمه للمشروع. لكن منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019 ومع عملية ملء السد الأول في تموز/ يوليو 2020، انضم السودان بقوة إلى القاهرة. لكن هذا غير مفاجئ بالنظر إلى أن مصر مع الإمارات والسعودية دعمت الفصيل العسكري الذي أطاح بالبشير، والذي يحكم السودان الآن في شراكة غير مستقرة مع السلطات المدنية، حيث طور قادة القوات العسكرية وشبه العسكرية السودانية علاقات قوية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ من خلال المشاركة في التحالف السعودي في الحرب اليمنية ضد الحوثيين، وتوفير معظم القوات البرية العاملة.
وفي المقابل لا يبدو أن السلطات المدنية السودانية لديها علاقات وثيقة بنفس القدر مع السعودية والإمارات، ولكنها بدلاً من ذلك تغازل الولايات المتحدة وأوروبا للحصول على الدعم اللازم لبقائها في السلطة وعدم انقلاب العسكر عليها.
"على الرغم من الجمود" يبقى دور الاتحاد الأفريقي حاسماً في أزمة سد النهضة:
مع رفض أديس أبابا لقرارات جامعة الدول العربية التي تدعو إلى تدخل مجلس الأمن الدولي في النزاع بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي، حيث يقوض هذه القرارات جميع احتمالات التدخل المباشر لدولة الإمارات العربية المتحدة كوسيط في الصراع، بصفتها شريكاً قوياً لإثيوبيا، حيث تسعى أبو ظبي للعب دور في التغلب على حالة الجمود الدبلوماسي بين دول الأزمة الثلاث.
ومع ذلك يقف رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بحزم في موقفه بشأن "الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية"، ويلقي باللوم على مبادرة جامعة الدول العربية باعتبارها محاولة لتعريب قضية أفريقية بحتة، خصوصا بعد فشل وساطة الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي السابق "ترامب" عام 2019، حيث تتهم إثيوبيا الولايات المتحدة بتوجيه عملية المفاوضات بالانحياز لصالح مصر.
لقد تبنت أديس أبابا موقفاً ثابتاً ورافضاً لمشاركة وسطاء دوليين غير الأفارقة في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، على الرغم من الحصار المفروض على المبادرة الدبلوماسية الحالية بقيادة الاتحاد الأفريقي. فلا يزال الاتحاد الأفريقي هو الفاعل الوحيد الذي يمكنه أن يلعب دوراً دبلوماسياً بشكل فعال ومجد. كما يجب ألا نغفل أن إثيوبيا في السنوات الماضية استطاعت أن تقوي علاقاتها الدبلوماسية مع غالبية دول القارة الأفريقية، ورغم ذلك يجب ألا نغفل بأن الخلافات الأخيرة بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والاتحاد الأفريقي بشأن رفض إثيوبيا إطلاق لجنة تحقيق من الاتحاد الأفريقي لرصد انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة في إقليم تيجراي، والتي تتهم القيادات الشعبية في الإقليم بأن الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بقيادة آبي أحمد قد ارتكبتها في حق شعب الإقليم في الحرب الأخيرة، حيث تنكر الحكومة الإثيوبية هذه الاتهامات وتعتبرها مضللة وتفتقر إلى الأسس القانونية، مما قد يكون عاملا يؤكد بأن دور الاتحاد الأفريقي كوسيط قد يكون محايداً وغير متحيز لأديس أبابا.
ما وراء الصراع: إمكانات منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي:
أصبحت منطقة البحر الأحمر، بما في ذلك دول حوض نهر النيل والقرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية، ذات أهمية استراتيجية لدى القوى الإقليمية والدولية، وأصبحت مساحة متزايدة الأهمية للمنافسة والتعاون، وأي توتر يحدث في المنطقة يقوض خطط الاستقرار والطاقة الكهرومائية في إثيوبيا، على الرغم من أن النتيجة التفاوضية وحل أزمة سد النهضة الإثيوبي يتجه نحو الحل الدبلوماسي وسيكون لصالح إثيوبيا مع انخفاض مؤشرات حل الصراع عسكرياً.
والأهم من ذلك أن عملية الانتقال السياسي في السودان أدت إلى موقف أكثر حزماً من الخرطوم بشأن المصالح السودانية في محادثات النيل والبحر الأحمر، وهذا سيجعل المنافسة على الفرص الاقتصادية مثل الاستثمار في الموانئ على البحر الأحمر أكثر تعقيدا بين العديد من الدول الإقليمية، كدول الخليج التي تعتبر من أكثر الدول استثمارا بعد الصين في إثيوبيا، وبالأخص السعودية والإمارات.