قضايا وآراء

حقوق الإنسان بمصر.. استراتيجية دون تطبيق

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
لا تزال حالة الجدل في مصر مستمرة بعد الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية طاحنة، وانسداد في الأفق السياسي، وتدهور ملحوظ في ملف حقوق الإنسان، تعالت على إثره أصوات غربية انتقدت الوضع الحالي وضغطت من أجل تحويل هذا المسار إلى اتجاه آخر.

"حقوق الإنسان" تركيبة لغوية فريدة لم تستوعبها السلطات المصرية، واستعصى عليها تفكيك مفرداتها أو استيعابها خلال السنوات الثماني الماضية؛ لتتحول إلى مرادفات مشبوهة، تعطي انطباعات غير مريحة لدى جميع الدوائر القريبة من النظام، حتى أضحى العاملون في هذا الحقل محل تشكيك دائم، تحيط بهم الشبهات، ويتلقون الإهانات ببرامج القنوات الفضائية، ويتعرضون لشتى أنواع الاغتيال المعنوي، قبل أن تنقلب الأوضاع وتتغير الأحوال تماما بعد حديث رأس النظام عن هذا الاختراع العظيم الذي سيجري تمصيره في الاستراتيجية الجديدة.

تصفحت الاستراتيجية التي جاءت في 78 صفحة، وتضمنت عددا من المحاور الخاصة بحقوق الإنسان بمفهومها الشامل، ولفتت انتباهي المرتكزات التي استندت إليها، ومن أبرزها: الضمانات الدستورية في مجال حماية وتعزيز واحترام الحقوق والحريات، والالتزامات الدولية والإقليمية لمصر في مجال حقوق الإنسان، وعندها توقفت قليلا، وقلت في نفسي إن هذا يكفي دون الخوض في باقي الاستراتيجية، فبنود الدستور والاتفاقيات الدولية كفيلة بوضع مصر في موقع آخر إذا أخذت على محمل الجد، لكن آفة قومنا الاهتمام بالشكل على حساب المضمون، وبالنص النظري على حساب التطبيق العملي.

من الناحية النظرية، لا خلاف على المبادئ الأساسية التي وردت في الاستراتيجية ومحاورها الأربعة، لكنني توقفت كثيرا أمام المحور الأول المتمثل في الحقوق المدنية والسياسية، والذي يتضمن الحق في الحياة والسلامة الجسدية، والحق في الحرية الشخصية، وحق التقاضي وتعزيز ضمانات المحاكمات المنصفة، ومعاملة السجناء والمحتجزين، وحرية التعبير، وحرية التجمع السلمي، وحرية التنظيم. وهي أمور تدفع إلى الضحك حد البكاء، فلا وجود لأي من هذه الحقوق الأساسية في مصر المعاصرة، ومن يجرؤ على الحديث عنها علنا، فإن مصيره إما أن يسجن أو عذاب أليم.

يوقن الجميع أن حقوق الإنسان لا تحتاج إلى استراتيجية وطنية، يتم الإعلان عنها في حفل دعائي كبير، مع اسم فخم وشعار يحتاج إلى تفسير وتعبير؛ فالألفاظ الرنانة لن تجدي نفعا لملايين المعذبين وآلاف المعتقلين، ومهما تفنن أصحاب الخبرة في الصياغة واختيار الألفاظ المعبرة عن التخطيط بعيد المدى والأهداف التي يتعين الوصول إليها والوسائل المعينة على ذلك، ومهما حاول المدعون إلباس هذا المخرج الجديد مسوح الوطنية، التي توحي بأنه صناعة محلية بعيدة عن إملاءات الخارج، فلن يغير ذلك من بؤس الواقع ومرارته شيئا.

حقوق الإنسان بمعناها العام معروفة ولا تحتاج إلى ترجمات كثيرة إذا عبرت عنها بإشاعة العدل في المجتمع ورفع يد الظلم عن المواطنين، ومعرفة كل مواطن لحقوقه وواجباته التي كفلها الدستور ونصت عليها مواد القانون. وقد يكون للسلطة الحاكمة رؤية محددة تعبر عن أولوياتها - وليس من بينها حقوق المواطنين - لكن المشكلة في بعض شرائح المجتمع التي تتماهى مع النظام لدرجة كبيرة قد تصل حد التطابق في وجهات النظر، فيغض أحدهم الطرف عن حقوق الغير إذا غلب على ظنه أنه بمنأى عن الأذى، ولا يدري هؤلاء أن دائرة الظلم لن تتوقف عند طرف معين لتطال الجميع في نهاية المطاف.

هذا الحال البائس عبر عنه بوضوح الفنان محمد صبحي، بعدما فشل في تسويق مسلسل تلفزيوني عمل عليه لمدة أربع سنوات، ولم يجد جهة واحدة يلجأ إليها، فخرج شاكيا من تحكم شركة واحدة في جميع ما يخرج إلى الشاشة، متهما النظام بالسيطرة على الفضائيات واحتكار الدراما والإعلام، والسيطرة المطلقة بشكل منفرد على مخرجات الشاشات المصرية.

وإذا كان صبحي الذي يمثل شريحة أصحاب الحظوة المقربة من النظام، وقال في تصريح سابق "لو السيسي خد ولادي وعذبهم هستعوض ربنا وما يتمسش تراب بلادي"، يعاني مرارة الظلم والاحتكار بهذه الصورة، حتى ظهر عاجزا لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا، فلك أن تتخيل ما يحدث لباقي طوائف الشعب من المنسيين والمغضوب عليهم.

لا أعتقد أن جنرالات مصر يعنيهم ميثاق الأمم المتحدة، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأستغرب كثيرا من حالة التفاؤل التي انتابت البعض، بعد المناورة الأخيرة التي جاءت لتخفيف ضغط غربي مستمر، ومحاولات النظام المستميتة لتجميل صورته الذهنية لدى العالم الخارجي.

أدري أن الخطب عظيم، وأن الجرح غائر، وآمل أن تحدث انفراجة قريبة لإطلاق سراح المعتقلين، لكن الإفراط في التفاؤل مذموم؛ فلا يتوقع ممن أهدر كرامة الإنسان وأزهق الأرواح لأتفه الأسباب أن يمنح حقوقا، والحق الوحيد الذي يمكن أن يمنحه هؤلاء للشعب المصري هو حق الحياة بشروطهم وعلى طريقتهم الخاصة.
التعليقات (0)

خبر عاجل