هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يحتاج الأمر إلى وقوف مذيع البي بي سي، على رأي الممثل سعيد صالح في مسرحية مدرسة المشاغبين، ليعلن أن السيسي انتصر يا "منز"، فالدلائل على الأرض تؤكد أن العسكري الانقلابي صار "ماركة مسجلة" يتقرب إليها الأغراب والأقربون زلفى. لقد أكد عبد الفتاح السيسي أنه فعلا "طبيب الفلاسفة" وربما كان أيضا "مشعوذ" فقهاء القانون وترزيته على حد سواء.
زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي اعتبره كثيرون يوم تقلده مفاتيح قصر قرطاج مرشحا للثورة وأملا في استمرارية المد الثوري الذي شكلت تونس استثناء معبرا عنه في ظل الانتصارات المتتالية للثورة المضادة، أظهرت ألا صوت يعلو أمام إبداعات وأفكار السيسي، ومَن وراءه من متعهدي حفلات النكوص الجماعية الممتدة من المحيط إلى الخليج، بل وصل صداها إلى مواطن أخرى كانت تعد، إلى وقت قريب، حاضنة الهاربين من قمع الانقلاب وجور النظام العسكري، فشهدنا كيف صارت البرامج التلفزيونية تعلّق أو تغلق قربانا للتقارب الذي بدأ غزلا في التصريحات وقد ينتهي باستقبال واحتضان من كان "منبوذا" حتى على طاولات العشاء الرسمية وفي الصور المخلدة للملتقيات الدولية إلى زمن قريب.
صحيح أن قيس سعيد سريع التأثر بمحاوريه من الرؤساء والقادة منذ اليوم الذي اقترح فيه تجربة اللويا جيرغا الأفغانية حلا للمعضلة الليبية المستشرية على حدود بلاده تونس فاتحا المجال وقتها لدولة القبائل بديلا عن دولة المؤسسات، إلى اعتباره الاستعمار الفرنسي "حماية" وهو في ضيافة الرئيس إيمانويل ماكرون، وانتهاء باغترافه من علم "طبيب الفلاسفة" ليعود إلى جامع الزيتونة حاملا فتحا فكريا لم يسبقه إليه الأولون والآخرون، ويعلن من هناك أن التونسيين "مسلمون وليسوا إسلاميين".
عبير موسي استبقت خرجته تلك وتنبأت بما قد يليها من قرارات وهي تصرح لقناة مصرية إن "تعهد الرئيس سعيد بموضوع مكافحة الإرهاب، وإبعاد التنظيمات من تونس، يعطينا الأمل في أنه عندما يعود لأرض الوطن، سيضع ملف هذه الجمعيات المشبوهة والشخصيات الإرهابية المتغلغلة في تونس أمام قرارات عملية"، والعملي في برنامج حزب عبير تصنيفها "إرهابية".
زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي اعتبره كثيرون يوم تقلده مفاتيح قصر قرطاج مرشحا للثورة وأملا في استمرارية المد الثوري الذي شكلت تونس استثناء معبرا عنه في ظل الانتصارات المتتالية للثورة المضادة، أظهرت ألا صوت يعلو أمام إبداعات وأفكار السيسي، ومن وراءه من متعهدي حفلات النكوص الجماعية
ليس غريبا إذن أن يولي قيس سعيد قبلته إلى القاهرة، فهو في "حرب" لم تضع أوزارها بعد في مواجهة برلمان وحكومة منبثقة منه، لا يرى من وجودهما فائدة لتونس بل يكاد يعتبرهما شرا مستطيرا، وأهل الشر مقولة سيساوية خالصة. محاولات التحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية، والاستئثار بتفسير مضامين الدستور، لعدم القدرة على تعطيله أو تعديله، صارت الشغل الشاغل لساكن قرطاج، ولا من قدوة يمكن الاقتداء بها، بعد المحاولات الفاشلة في تأسي الخليفة عمر بن الخطاب، إلا ساكن قصر الاتحادية وباني القصور الرئاسية بالعاصمة الجديدة.
كان الاعتقاد سائدا أن سقوط دونالد ترامب، بما مثله من سد منيع وحضن دافئ يحول دون المساس بـ"ديكتاتوره المفضل"، سيشكل بداية انحسار نظام السيسي ومن معه أو على الأقل تحجيم دوره في رسم سياسات المنطقة وفق الرؤية الترمبية التي لا ترى في الإسلام إلا إرهابا وجبت محاربته والنيل منه. لكن الواضح أن الديكتاتور المفضل باق بل آن الأوان أن يمد رجليه، ويضم إلى أتباعه حكاما وسياسيين ومثقفين وإعلاميين جددا ومستجدين.
ومهما يكن رأيك في السيسي فهو، للأمانة، ظاهرة تستحق دراسة علمية بعيدة عن التهريج والسخرية. فهذا حاكم انقلب على رئيسه ولم يسقط، قتل الآلاف وسجن عشرات الآلاف ولم يسقط، هجّر البشر ودمر الحجر ولم يسقط، باع التراب الوطني ولم يسقط، فرط في المياه الإقليمية وفي مياه النيل ولم يسقط، صرّف الأوهام للمصريين وتكشف زيفها ولم يسقط، شيّد قصورا رئاسية في عز الأزمة الاقتصادية وخرج يتفاخر بها ولم يسقط، رفع الضرائب وشرّع أخرى ولم يسقط، غيّر الدستور ليستمر حاكما ولم يسقط، أهدر الثروات في منشآت "فرعونية" لا طائل منها ولم يسقط، جرّف الحياة السياسية وأغلق على أصحابها بالضبة والمفتاح ولم يسقط، انقلب على مؤيديه وشركائه في الانقلاب وأقعدهم في البيوت ولم يسقط، ركّع الصحفيين ممن كانوا يعتقدون أنهم سدنته وأبواقه التي لا غنى عنها فجثوا على ركبهم يقبلون الأرجل لمجرد السماح لهم بالظهور ولم يسقط. فعل كل هذا وأكثر ولم يتزعزع "عرشه" إلا لماما. هذا حاكم لم تنفع ضده مواجهة أو تسريبات أو دعاء ثكلى ومظلومين يستنجدون برب العالمين، ولا يزال على نهجه سائرا لا يرعوي.
قبل أيام، وقف عبد الفتاح السيسي مزهوا باستقبال موكب المومياوات الملكية بالمتحف القومي للحضارة. المشهد كان تعبيرا حيّا لحقيقة أن الحضارة البشرية في طريقها للانحدار والزوال. فكيف يستقيم أن ينتهي حكم مصر إلى ما نشهده اليوم بعد الملوك رمسيس الأول والثاني والثالث والرابع، والملك سقنن رع، والملوك تحتمس الأول والثاني الثالث والرابع، والملك ستى الأول، والملكة حتشبسوت، والملكة ميرت آمو وغيرهم من الملوك الـ22 الذين انتقلوا من المتحف المصري، القريب من ميدان التحرير، إلى مرقدهم الجديد. لكن الحقيقة تنطق، على ما يبدو، بما نطق به سعيد صالح في مسرحية مدرسة المشاغبين وهو يصرخ: مرسي الزناتي اتهزم يا رجالة. أما السيسي فالواضح أنه انتصر، فماذا أنتم فاعلون يا "منز"؟