هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ظلت مقولة "الحل في الرياض" تتردد على مسامعنا منذ الخامس من حزيران (يونيو) 2017، تاريخ إعلان الحصار الرباعي على دولة قطر في شهر الصيام والقيام. استوى في ترديد اللازمة المسؤولون السياسيون و"الإعلاميون" وجيوش الذباب الإلكتروني. انتهى المطاف بالأزمة إلى اتفاق بقاعة مرايا، بمحافظة العلا، وسط طبيعة صحراوية هي مهد دول مجلس التعاون الخليجي قبل أن تنطلق في بناء الأبراج والبنايات الفرعونية التي لا طائل يجنى من أغلبها غير التفاخر بما أنعم الله به على المنطقة من ثروة نفطية قابلة للنضوب.
من يدري فربما ساعد انعكاس المرايا في إظهار النوايا الحقيقية للجالسين في القاعة وربما فضحت نفس المرايا بعضا من أسباب النزول والقبول بالاتفاق غير إرضاء ساكن البيت الأبيض الجديد.
الأكيد أن الحل لم يكن، منذ اليوم الأول، ليخرج عن واشنطن ومكتبها البيضاوي، وإن كان جزء مما شهدته العلا، ثلاث سنوات ونصف بعد الحصار، مرده للصمود والمقاومة التي أبدتها، على عكس المنتظر، دولة "صغيرة" مثل قطر ومكنتها، باعتراف المحاصرين ومنظريهم الأكاديميون، من تحقيق "النصر" في مواجهة الأخوة الأعداء. الصمود القطري في مواجهة رباعي الحصار صمود تحققت له أسباب النجاح وكرس له حسن تدبير الإمكانيات بعيدا عن العنتريات والأغاني الحماسية والشعارات، وهو بذلك نموذج يحتذى لكل طامح في المواجهة وإثبات الذات.
من طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدّ
أضاع الحلم في طلب المحال.
هكذا قال الإمام الشافعي.
بعض من الموقعين على اتفاق العلا، سهروا لياليهم يحبكون المؤامرات ويخططون لتغيير النظام بالدوحة إسوة بمن حاولوا قبلهم في العام 1996. لأجل ذلك، صرفوا الأموال وأغدقوا العطاء على ساسة الغرب وإعلامهم وجماعات الضغط به. كما استمالوا ضعاف النفس من الأشقاء وأهل الدار وبشروهم بحكم الدوحة ونشروا الأكاذيب وخاضوا في الأعراض، وتقربوا للكيان الصهيوني بالنوافل وعرضوا عليه الخدمات وفتحوا في وجهه الحدود وشرعوا له أبواب المطارات. وعلى الجانب الآخر دولة "صغيرة جدا جدا جدا" ناضلت من أجل البحث عن بدائل فاستفادت مما بناه الأسلاف من تحالفات وما شيدوه من مؤسسات للدفاع عن النفس وتفنيد الادعاءات وفضح ما تيسر من المؤامرات، ليبقى الخفي أعظم.
يبدو غريبا كيف انقلبت الآية من ثلاثة عشر مطلبا للتنفيذ من دولة قيل أنها احترفت رسم الحزن في نفوس العالمين، إلى عناق حار، في زمن التدابير الاحترازية، وجولات في السيارات الشخصية ولقاءات لبحث سبل التعاون الثنائي وتطوير أوجه العمل العربي المشترك وغيره من التعابير الإنشائية التي لا تعني لدى العامة الشيء الكثير. ثلاث سنوات ونصف مرت على المنطقة وهي تصارع طواحين الهواء وتسلم القرار الوطني والإقليمي لسيد البيت الأبيض يعبث به كيف يشاء.
الاستفراد بقرار الحرب كما السلم دون اعتبار للشعوب وطموحاتها المعلنة والمعبر عنها، أسهل طريق للردة ولاستنزاف الجهد والمال في حرب طواحين هواء متجددة لا تبقي ولا تذر من المقدرات ولا تنتج مخرجات استقرار وتضامن حقيقي.
والآن وقد "قرر" القادة ما أسماه وزير الخارجية السعودي "طيا كاملا للخلاف مع قطر"، يطرح السؤال عن مآل المطالب وصدقيتها، والأهم عمّن يتحمل مسؤولية ما وقع من استنزاف، وعن مصير من أدوا الثمن من حيواتهم وحرياتهم وأموالهم واستقرارهم العائلي والوظيفي وغيره من مآسي ثلاث سنوات من العداء المستعر والعدوان غير المبرر بين "الأشقاء"؟
تملك دول الخليج من الموارد المالية ما يسمح لها كدول وحكومات بتحمل تبعات أي خلاف سياسي أو حصار اقتصادي. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لدول عربية أفقر نالها من تداعيات أزمة الخليج ما نالها انتقاما أو عداء أو أزمات سياسية مفتعلة أو حروبا أهلية طاحنة.
أما الأفراد الذاتيون فقد وجدوا أنفسهم بين مطرقة طاعة أولي الأمر وسندان الالتزامات الأسرية والمعيشية التي لم تشملها خطط من قرروا إعلان الشقاق ولم يكثروا بها إلا لماما. بعضهم غُيّب في السجون بتهم "الصمت" بعد أن منعت الشعوب من إبداء التعاطف، وآخرون اعتقلوا بتهم التخابر والخيانة وكثيرون بتهم الانتماء لمنظمات إرهابية مدعومة من الدوحة "عاصمة الإرهاب العالمي"، بل وصل الأمر بالإجرام حد تقطيع الأوصال بالمناشير. شيطنة الدوحة ووصمها بالإرهاب وتنابز دول إسلامية بالتهمة منحت دول غربية فرصة ما كانت لتحلم بها لوضع الدين الإسلامي في فوهة مدفع الاتهامات والدعوة إلى مراجعة بعض من أحكامه وتعطيلها. ورأينا كيف تنافس "علماء" السلطان في التبرير لل"دين الجديد" كما يرضاه الغربيون.
بعد كل هذا، يأتي اتفاق "العلا" حاملا عبارات فضفاضة، لا إجابة فيها على المطالب الثلاثة عشر، التي ما كان للدوحة بدونها أن تدخل نادي المرضي عليهم في أجندة دول الرباعي المتحالفة، ولو ظاهريا، في قيادة الثورات المضادة وتسليح المليشيات المتمردة عن السلط "الشرعية" حينا أو دعم الأنظمة القائمة في وجه "الثوار" أحيانا أخرى. نبراسها في الانتقال من موقع إلى آخر محاربة ما تعتبره تنظيمات "إرهابية" بعد أن كانت تمدها في السابق أسلحة وأموالا.
حالة الاستقطاب الإقليمية والدولية المتواصلة تؤكد أن الاتفاق مجرد "هدنة" مؤقتة في انتظار جولة صراع أخرى لا يمكن تجنبها إلا باعتماد رأي الشعوب ومؤسساته المنتخبة ديمقراطيا مرجعا أسمى. الاستفراد بقرار الحرب كما السلم دون اعتبار للشعوب وطموحاتها المعلنة والمعبر عنها، أسهل طريق للردة ولاستنزاف الجهد والمال في حرب طواحين هواء متجددة لا تبقي ولا تذر من المقدرات ولا تنتج مخرجات استقرار وتضامن حقيقي.
تغييب الشعوب وتزييف الوعي الجمعي، من خلال تصدر منظري تعوِّد المعدة القطرية على الأكل التركي والإيراني المشهد من جديد لتبرير الاتفاق، هو ما جعل كمامة ولي العهد السعودي تحظى بالاهتمام أكثر مما حظيت به مخرجات بيان العلا الختامي لدى الشعوب. وفي وضع كهذا تنتفي فيه المحاسبة عن الأخطاء سيستمر هدر الزمن والجهد على وقع عقارب ساعة القائم على أمر البيت الأبيض، هناك بعيدا بالعاصمة الأمريكية حيث بعضٌ غير يسير من الحل والبعض الآخر بالصمود والمقاومة وحسن التدبير لو تعلمون.
المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وتكريس حرية الرأي والتعبير نهجا بديلا عن الحكم الفردي طريق لا محيد عنه للالتحاق بركب الحضارة الإنسانية. وقتها سيصبح الحل في عواصمنا لا في واشنطن أو موسكو أو أنقرة أو طهران أو تل أبيب.
يقول أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا..