هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من المبكّر الحديث عن ذلك رغم كل الضجة الإعلامية والتحشيد الذي واكب القمّة الخليجية بمنطقة العلا بالسعودية وهي القمّة التي أعلنت عن عودة العلاقات السعودية القطرية ونهاية ما عُرف بالأزمة الخليجية أو حصار قطر. مؤشرات عديدة قادرة على قراءة هذا الطور الجديد من أطوار العلاقات بين الأنظمة والكيانات السياسية الخليجية في مرحلة حساسة من مراحل تاريخ المنطقة المحفوفة بالمخاطر والانزلاقات.
نهاية الحصار من جهة أخرى حدث على قدر كبير من الأهمية لا في ذاته فحسب بل في ما سينسحب عليه من القضايا الإقليمية والملفات الدولية وخاصة منها تلك التي تشكلت بعد الربيع العربي. نحن إذن أمام منعرج تصحيحي هام أو هكذا يبدو وهو المنعرج الذي لن تتأخر تداعياته في الظهور إلى العلن.
بين البداية والنهاية
من المنطقي القول بأن الإعلان عن نهاية الحصار وانقضاء الأزمة لا معنى له إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة الحدث نفسه. الحصار ليس مناسبة زمنية وليس مباراة في كرة القدم تُعلن صفارة الحكم عن بدايتها ونهايتها بل هي معطى معقد يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالنفسي بالتاريخي وبغيرها من العوامل والمعطيات.
لكنه من المفيد الإشارة إلى أن أهم عناصر الأجوبة عن سؤال العنوان إنما تكمن في بداية الحدث نفسه. حصار قطر كان حدثا مفاجئا غير منتظر بالمرة لكل المراقبين والملاحظين بما في ذلك القطريون أنفسهم فلا أحد كان يتوقع أن تقوم أربع دول بإغلاق مجالاتها الجوية والبرية والبحرية في وجه دولة جارة شقيقة.
الحصار تقرّر على ما يبدو على طاولة عشاء وكان أصحابه يعتقدون أنّ الدوحة ستسقط خلال أيام وأنّ الخزانة القطرية ستكون في متناولهم فقطر دولة صغيرة ولا حول لها ولا قوة. لكنّ الحقيقة كانت غير ذلك تماما، حيث اصطدمت المؤامرة بواقع مختلف تماما حوّل عبره القطريون مخطط الحصار إلى تجربة ناجحة في تطوير كل وسائل الاعتماد على الذات في كل المجالات.
كان الحصار يتضمن ضمن ما كان يتضمنه الخيار العسكري كما صرح بذلك أمير دولة الكويت رحمه الله وغفر له، وهو الأمر الذي يوحي بأن مخطط البدايات كان يسعى إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة. جاء الحصار إثر فشل الانقلاب التركي وفي سياق موجة الانقلابات على الربيع العربي التي دشنها الانقلاب العسكري في مصر. سياق الانطلاق الذي كان على رأس دوافعه وجود الرئيس الأمريكي ترامب في السلطة، ليس إذن سياقا مسطحا أو مستقلا بل كان سياقا مركبا وكان مشروع الحصار جزءا من مشروع أكبر للمنطقة وللإقليم. كان المشروع يهدف إلى تصفية كل ما له علاقة بالربيع العربي وبطموحات الشعوب في الحرية والكرامة مقابل تقديم القدس والتنازل عن الأقصى وإخضاع كل الدول التي ترفض هذا المشروع.
فضل الحصار ودروسه
لكل أزمة وجهها المشرق مهما عظُمت وهو الدرس الذي ظهر تطبيقا في أزمة الخليج الأخيرة. لا يقتصر هذا الإقرار على ما حققته قطر من قفزة نوعية وكمية في تطوير قدراتها الذاتية بل يتمثل ذلك أساسا في انكشاف المشهد الخليجي والعربي وانكشاف حركة الفواعل داخله.
أظهر الحصار هشاشة الوحدة الخليجية وهشاشة مجلس التعاون الخليجي الذي وقف عاجزا أمام أخطر الأزمات الذي كادت تعصف به وتُلغي دوره التاريخي لولا حكمة بعض الأطراف داخل المجلس. وهو الأمر الذي يجدد التساؤل عن جدوى المؤسسات الرسمية العربية كمجلس التعاون وجامعة الدول والاتحاد المغاربي وغيرها من المؤسسات الرسمية التي تبدو هياكل غير ذات قيمة ولا يتجاوز صداها أطراف القاعات التي تُعقد فيها اجتماعاتها.
من الصعب إذن الجزم بأن أزمة الخليج قد ولّت وأنها ذهبت إلى غير رجعة لأن آثارها لا تزال حاضرة في الأذهان. ستحتاج المنطقة عقدا من الزمن على الأقل للتخلص من آثار الحصار وإعادة بناء الثقة على أسس صلبة تحفظ سيادة كل دولة وتمنع مخاطر الانزلاق نحو المجهول من المغامرات والمؤامرات.
أبان الحصار عن ارتهان الداخل الخليجي إلى القرارات الدولية بشكل ألغى كل قدرة على الوساطة أو على الحل الذاتي وهو ما ظهر جليا في الدور الذي لعبته الكويت طوال مدّة الأزمة لكنها لم تُفلح في شيء. لكن من جهة مقابلة فتحت هزيمة ترامب الباب أمام المصالحة الخليجية وسارع مستشاروه إلى فرض إعادة تطبيع العلاقات وفتح المعابر والأجواء بين قطر ودول الحصار قبل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد.
على جبهة أخرى بدا المواطن الخليجي غائبا عن كل قدرة على التأثير في القرارات المصيرية التي يكون هو أوّل ضحاياها بل إن دول الحصار لم تتردد في تنفيذ حملات اعتقال طالت كل من سوّلت له نفسه الدعوة إلى إيقاف الحصار أو حتى نقده. في نفس الوقت انخرطت نخب خليجية كثيرة في حملات الشيطنة والتشويه بشكل لم تعهده المنطقة طوال تاريخها الحافل بالصراعات والأزمات وهو ما يعكس سعي النظام السياسي إلى الدفع بالمجتمع في أتون المعارك التي يفتعلها أو يتورط فيها.
خسر الخليج أشياء كثيرة منها مئات المليارات من ثروات الشعوب وقوت الأجيال كما أضاع فرصة تاريخية كانت قادرة على توحيد بنيانه وتحويله كتلة فاعلة في الصراعات الإقليمية الدائرة حول المنطقة.
من الصعب إذن الجزم بأن أزمة الخليج قد ولّت وأنها ذهبت إلى غير رجعة لأن آثارها لا تزال حاضرة في الأذهان. ستحتاج المنطقة عقدا من الزمن على الأقل للتخلص من آثار الحصار وإعادة بناء الثقة على أسس صلبة تحفظ سيادة كل دولة وتمنع مخاطر الانزلاق نحو المجهول من المغامرات والمؤامرات.
تحتاج منطقة الخليج ميثاقا سياسيا جديدا يتجاوز النصوص الجوفاء التي تأسست عليها العلاقات البينية بين دوله ويكون قادرا على منع تجدد أزمات الثقة وتحصين شعوب المنطقة من الرجاجات الارتدادية. يمكن لحصار قطر أن يكون درسا تاريخيا لدول الخليج تستطيع عبره صياغة مستقبل جديد قد يكتفي في أطواره الأولى بالالتزام بسيادة كل دولة على قرارها السياسي. لكنها في حال فشلت في ذلك فإنها ستبقى رهينة النزوات الفردية التي ستترك الباب مفتوحا أمام كل المشاريع والأطماع المتربصة بالخليج وأهله.