النصوص والمعاني والكلمات والدلالات التي صيغت بها الخطة الأمريكية في ما يعرف "بصفقة القرن"، سادها الغموض وعدم الثقة والشك في ما يتعلق بمستقبل القضية
الفلسطينية بكل مفرداتها، وفي ما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارجها، وفي المقابل تعمدت الصياغة التقريرية الحاسمة في ما يتعلق بما تقدمه لإسرائيل وخصوصاً ما يتعلق بالقدس والاستيطان والضم والسيادة واليد الأمنية العليا والتطبيع مع العرب.
وتفيد دراسة تحليل المضمون، ودراسة التفكيك السياسي للخطة المعروضة، بأنها صيغت لوضع القضية والشعب الفلسطيني بل والأمن العربي على قائمة الانتظار غير محدد الشكل والزمان والمضمون لمختلف القضايا التي تخص العرب والفلسطينيين، بل إنها شككت في مستقبل النظام السياسي (الكيان، الشعب، الجغرافيا، الديمغرافيا) في ما يتعلق بالأردن.
كما أعطت للشعب الفلسطيني ولقيادته فرصة أربع سنوات للتفكير والتفاوض مع الجانب
الإسرائيلي لتحقيق الشروط التعجيزية لاستحقاق إطلاق اسم "دولة" على معازلهم، بما في ذلك قدرتهم على خوض حرب أهلية بين السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة لنزع سلاحها خصوصاً فيما يخص قطاع غزة.
وكثر الغموض والمجهول في ما يتعلق بأسس بناء هذا الكيان (الفلسطيني) لهذه المعازل، وكيف ستعمل ككيان واحد، وساد الغموض المتعمد حقيقة الدعم الاقتصادي لبناء نهضة اقتصادية وتنمية مستحيلة في هذه المعازل (بل هذا السجن الكبير) المسيج بالجيش الإسرائيلي من جهاته الأربع.
وظهر المصير المجهول عند الحديث عن واجبات الدول العربية بالتعاون مع إسرائيل لمواجهة إيران والمنظمات التي تضفها الولايات المتحدة "إرهابية"، وتشمل حسب الرؤية الأمريكية كلاً من حماس والجهاد وحزب الله والـBDS.
لكنها لا تقدم للعرب مقابل ذلك أي شيء، بل تعدهم بمواجهة إيران، طبعاً لحماية المصالح والأمن الأمريكي والإسرائيلي. بل إن "الصفقة" تضع علامات محددة للمصير المجهول عندما تتحدث عن مستقبل تقوية وجود ونفوذ وقدرات إسرائيل الأمنية، وعندما تتطلع للمال العربي ليصب في المشاريع التي تخدم وتقوي إسرائيل مثل مشاريع تصدير الغاز الطبيعي والسياحة، بل إنها تزيد غموض المصير والمستقبل للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وللدور الأردني التاريخي فيها، وتتناول بإبهام يكاد ينطق بإلغاء الدور واعتماد إسرائيل بدلاً منها، بوصف إسرائيل جُرّبت ونجحت بإدارة الأماكن المقدسة وحفظ حرية العبادة فيها "لكل الأديان"!
ولا تفوت الخطة أن تنشر الغموض في كل ثنايا الحديث عن
السلام والأمن والاستقرار والازدهار، لتتحدث عن تفكير خيالي لا علاقة له بالحقائق والوقائع القائمة، كما يسود الغموض مستقبل الكيان، أو المعازل الفلسطينية، ما دامت الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة، "حسب الرواية التوراتية المزعومة"، وهي لا تتحدث أبداً عن بناء وطن للشعب الفلسطيني، بل إنها تتحدث عن إبقاء السكان في هذه المعازل "كمكرمة" من الجانب الإسرائيلي.
وتعتبر الخطة أن ما ورد فيها ليس لسماع آراء الآخرين، بل للتطبيق ولو من جانب واحد، ليقبل من شاء وليبقى خارج السلام من شاء، وتتحدث عن فلسطينيين غير معرفين ربما يقبلون بهذه الخطة.
ويحمل الغموض في النصوص والدلالات والمآلات مقاصد عميقة يعتقد بأن أهمها:
1- وضع الشعب الفلسطيني في زاوية اللاخيار، في مقابل تلبية الكثير من طموحات اليمين الإسرائيلي المتطرف.
2- تمرير الخطة من قبل بعض الأطراف العربية اعتماداً على فكرة "تفاوض" غير مفهوم دلالاته، كما أنه غير سياسي أساساً.
3- اعتبار الإغراء المالي لعدد من الدول العربية سبباً ودافعاً لها لتتحمس للخطة وتمارس الضغط على الفلسطينيين للقبول بها.
4- تشريع التنفيذ الإسرائيلي للنصوص المتعلقة بتلبية أطماعه، بما في ذلك القدس واللاجئين والمستوطنات والأغوار الشمالية والمياه والأمن، مع إطلاق
مفاوضات لا تحمل أي طابع سياسي ذي قيمة، وليس على طاولتها إلا إثبات حسن السلوك الفلسطيني، والقيام بمهمات أمنية لصالح إسرائيل، كما هو الحال في موضوع نزع سلاح قطاع غزة.
5- يوفر الغموض مدخلاً مهماً لعدم قدرة الشارع العربي والإسلامي بل والمجتمع الدولي؛ على إدراك كارثية هذه الخطة على القضية الفلسطينية والمنطقة.
6- يوفر الغموض فرصة لأطراف عربية ودولية لتتناوب بالضغط على القيادات الفلسطينية لتقبل الصفقة، وتفاوض على ما تبقى من لُقيمات فيها باسم الواقعية، ولعلها تحصل شيئاً أفضل من لا شيء.
7- توفر فترة الأربع سنوات المقترحة لمفاوضات تحقيق الشروط لإعطاء الفلسطينيين إدارة بلديات في معازلهم تسمى "دولة"، فرصة كافية لإسرائيل لفرض إرادتها الواقعية في ما حددت الصفقة لها، ولذلك فمع انتهاء الأربع سنوات بلا نتائج كما هو متوقع، تبدأ إسرائيل بالتفاوض على أراضي المعازل الفلسطينية ذاتها وتطالب باتباع سكانها لدولة عربية أخرى، ويلحق بهم بعدها السكان العرب في منطقة الثلث من الأراضي المحتلة عام 1948.
8- توفر فكرة تبادل الأراضي المضللة، وفكرة العاصمة في شرق القدس، وضم أراضي المثلث بسكانها (وهي معزل سكاني بسجن حقيقي، حيث الاستيطان شرقاً والأمن الإسرائيلي وسياجه غرباً بعد تطبيق الصفقة)، مساحة مقاربة لمساحة الضفة الغربية التي احتلت عام 1967، وليعتبر ذلك تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 242 لعام 1967، كما أشارت الصفقة.
بذلك يمكن القول إن لقطات الغموض والمجهول في نصوص الخطة الأمريكية ومآلاتها في ما يخص الشعب الفلسطيني، والتي تناول التحليل جزءاً منها، إنما تضع مصير الصفقة والشعب الفلسطيني في العبور إلى المجهول، وهو يضاف إلى ما تعنيه الخطة من تصفية لقضية فلسطين وتحقق لأحلام وأطماع اليهود واليمين الإسرائيلي المتطرف، وتهدد حقوق الشعب الفلسطيني، ولم تتعامل مع وجوده وحقوقه إلا كسكان تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، ما يعني أنها تمثل صفقة استسلام وإذعان للاحتلال.
وبذلك يتساءل الكثيرون: كيف سيعمل العرب والفلسطينيون على مواجهة الصفقة وإفشالها، حيث أنها تشكل حالة نقيض كامل للرؤية العربية والفلسطينية وتهدد المصلحة العربية في فلسطين ومصالح الأمن القومي العربي المتعددة، خاصة وأن التجربة والفهم العميق للصهيونية وقادتها لا يعطي فرصة لأي عاقل للرهان لا على نوايا ولا مفاوضات مع إسرائيل وإدارة الرئيس ترامب اليمينية الأمريكية؟