تشهد المنطقة العربية تحولات مهمة وأساسية كانت قد بدأت
بواكيرها بتغيّرات متعددة منذ خمسة أعوام، وتظهر حركة التغيّرات الجارية خلال
الشهور الستة الأخيرة أن المشهد السياسي العربي بدأ يرتسم بلوحة متنوعة من
التحولات؛ أساسها تنامي اتجاهات التراجع عن فكرة الحلول الأمنية والعسكرية لحسم
الخيارات الوطنية والقومية البينية، والاتجاه نحو فتح فرص التفاوض والحوارات
المباشرة وغير المباشرة، وتنامي القناعة بأهمية اتخاذ إجراءات عملية إزاء إعادة
تموضع وبناء الصورة العربية وجوارها الإسلامي بشكل جزئي ومتقدّم نسبياً.
ويمكن إدراك هذه التغيّرات الحاملة لتحولات مهمة محتملة في
تراجع الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد قطيعة ومعركة اقتصادية وسياسية وإعلامية،
والتوجه إلى تقديم تصورات مهمة في اتجاهات إنهاء كل من الأزمة السورية والعراقية
وتفكيك ارتباطاتهما الإقليمية بما يحفظ للبلدين السيادة، ويجمع أبناء شعبيهما،
ويؤسس لحالة استقرار سياسي وأمني يسعى له أبناؤهما.
يمكن إدراك هذه التغيّرات الحاملة لتحولات مهمة محتملة في تراجع الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد قطيعة ومعركة اقتصادية وسياسية وإعلامية، والتوجه إلى تقديم تصورات مهمة في اتجاهات إنهاء كل من الأزمة السورية والعراقية وتفكيك ارتباطاتهما الإقليمية
كما تشهد اليمن حالة من الجمود في التحوّل بالحل
العسكري، ما دفع الأطراف للبحث عن خيارات أخرى عبر وسطاء، والذي يبدو أنه قد حصل
على ديناميكية عالية جديدة على إثر عودة العلاقات السعودية- الإيرانية والتوصل إلى
تفاهمات بينهما لم تُعلن رسميا بخصوص إعادة بناء العلاقات بينهما على أسس بنّاءة
تحقق مصالح الطرفين، بل والانتباه إلى بعض الإشارات بخصوص التعاون في الملفات الإقليمية
الأخرى.
كما تمكنت العديد من الدول العربية من بدء مرحلة إعادة بناء العلاقات مع
تركيا بما يحقق مصالح الطرفين، ويصاحب ذلك تراجع قعقعة السلاح في ليبيا إلى حد
كبير لصالح التنافس السياسي والحوارات المباشرة بين الأطراف للتوصل إلى مخرج آمن
وبنّاء لإنهاء الأزمة الليبية.
وفي مقابل ذلك لا تزال جهود المصالحة
الفلسطينية تراوح
مكانها، ولا تحقق النجاح رغم أن الشعب الفلسطيني في حالة مواجهة للعدوان
الإسرائيلي
بمختلف الأشكال النضالية. كما لا تزال الأزمة التونسية تتصاعد وتتعمّق على أكثر من
صعيد، دون بوادر أو مؤشرات أوّلية للعودة إلى المسار الديمقراطي خلال العام 2023.
كما أن الأزمة السودانية التي عصفت بنظام الحكم السابق عام 2019 مستمرة، حيث لم
تتمكن القوى السياسية التي استلمت إدارة الحكم في البلاد من تحقيق الاستقرار
السياسي والاقتصادي والأمني وإنجاز التحول نحو بناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي
بحكومات منتخبة، وذلك رغم انقضاء أربعة أعوام على تغيير نظام الحكم.
وعلى صعيد الصراع العربي- الإسرائيلي شهدت الأعوام
الخمسة الماضية تحوّلات مهمة في معادلات الصراع والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي
وصدّ عدوانه، وخاصة حرب سيف القدس عام 2021، بينما تنامت فرص اندلاع انتفاضة ثالثة
ومواجهة شعبية ونوعية ضد قوات الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، وذلك على أصداء
تنامي نفوذ اليمين الإسرائيلي المتطرف من جهة، وتنامي مخاطر وإرهاب مليشيات
المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس من جهة أخرى. وعلى نفس السياق تشكلت
حكومة إسرائيلية جديدة برئاسة بنيامين نتنياهو تحمل فكراً فاشياً ومتطرفاً تجاه كل
الآخر، بدءا بالفلسطينيين، وانتهاءً بالمخالفين في الرأي السياسي والفكر من اليهود
الإسرائيليين أيضا.
وقد أعلنت هذه الحكومة برامجها المعادية جذرياً للتسوية
مع الفلسطينيين، بل ولاتفاقات أوسلو التي وقعتها إسرائيل مع منظمة التحرير
الفلسطينية عام 1993 باستثناء الشق الأمني الذي يخدم مصالح الاحتلال وحده، كما
تحمل أفكاراً سياسية تفجيرية مثل ضمّ الضفة الغربية بالكامل لإسرائيل، وبالحد
الأدنى توسيع الاستيطان ومصادرة الأراضي وضم أجزاء كبيرة من الضفة ذات الكثافة في
المستوطنات اليهودية وشمال البحر الميت وغور الأردن، وذلك استنادا لخطة كان قد أعلنها
نتنياهو أيضا عام 2019 بعد إعلان "صفقة القرن"، ما يعني احتمال استمرار
المواجهة المفتوحة بين هذه الحكومة المتطرفة والشعب الفلسطيني.
وكانت عمليات اقتحام مدينة حوارة الفلسطينية وأعمال
الحرق والتخريب من قبل مليشيات المستوطنين اليهود بحماية الشرطة والجيش وتعاونهما،
مجرد سيناريو أوّلي لمثل هذه الاتجاهات، وقد قابل ذلك تصاعد وتنامٍ مميز في عمليات
المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال ومليشيات مستوطنيه المسلحين، مما دفع
إسرائيل لتستعين بالولايات المتحدة للضغط على السلطة الفلسطينية وبعض الأطراف
العربية للقيام بإجراءات وخطوات عنيفة ضد هؤلاء المقاومين من قبل أجهزة أمن السلطة
الفلسطينية، حيث تم عقد اجتماعين أحدهما في العقبة والآخر في شرم الشيخ للتوصل إلى
خطة عملية تقوم أساسا على تطوير دور أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في فرض التهدئة
وملاحقة المقاومين، لكن فصائل وقوى المقاومة من المجموعات المسلحة الفلسطينية لا
تزال تتمكن من تحقيق اختراقات متنوعة ومهمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتتسبب بتعطيل
استقراره الأمني.
انقسام سياسي وفكري وشعبي في إسرائيل هو الثالث من نوعه، والذي يحمل تهديدات متعددة لأمن الدولة والمجتمع لدرجة تخوف رئيس الكيان الإسرائيلي من الحرب الأهلية، الأمر الذي يحمل متغيرات مهمة في إضعاف مناعة الدولة وقوتها في مواجهة الفلسطينيين والمخاطر الأمنية الأخرى
وتتحصن الحكومة الإسرائيلية الحالية بقوة يمين غير مسبوقة
في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، حيث يتمتع اليمين بحوالي 85 مقعدا برلمانيا من أصل
120 مقعدا، وبعضهم على خلاف سياسي مع نتنياهو. ويحاول الائتلاف الحكومي الحالي
بزعامة نتنياهو تغيير الوجه الديمقراطي للدولة نحو يهودية متطرفة علمانية ودينية
متحالفة، ويسعى نتنياهو إلى تحصين قرارات النواب من المحكمة العليا، حيث يسيطر على
أغلبية مريحة مع حلفائه في الحكومة، الأمر الذي تسبب بانقسام سياسي وفكري وشعبي في
إسرائيل هو الثالث من نوعه، والذي يحمل تهديدات متعددة لأمن الدولة والمجتمع لدرجة
تخوف رئيس الكيان الإسرائيلي من الحرب الأهلية، الأمر الذي يحمل متغيرات مهمة في
إضعاف مناعة الدولة وقوتها في مواجهة الفلسطينيين والمخاطر الأمنية الأخرى.
وعلى الصعيد الدولي يشهد العالم حراكاً لا تزال اتجاهاته
غير محسومة، لكن تطور العلاقات الصينية- الروسية، وتنامي التهديد من كوريا الشمالية
المدججة بالصواريخ حاملة الرؤوس النووية، وتزايد الاهتمام الصيني بالخطط
والاستراتيجيات والصناعات الدفاعية والعسكرية، وإصرار الصين على الحيلولة دون تدخل
الولايات المتحدة في تايوان بالقوة المسلحة استناداً إلى الصين الواحدة والصين
العظمى التي يحلم بها الرئيس الصيني تشي جينغيانغ عام 2050، وفي ظل حرب دامية
تخوضها روسيا في أوكرانيا التي تتلقى الدعم من حلف النيتو والاتحاد الأوروبي، حيث
يمكن القول إن مخرجات هذه الحرب العسكرية والأمنية والاقتصادية وبالتالي السياسية
سوف يكون لها اثر أساسي ومهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والنظام الدولي،
سواء بما ترغب به الصين وروسيا أو ما تخطط له الولايات المتحدة وحلفاؤها أو غير
ذلك.
تتوفّر الفرصة من جديد لإعادة التفكير والتموضع العربي والجوار الإسلامي، بتفكيك الأزمات في العلاقات الوطنية، وفي العلاقات العربية البينية، والعلاقات العربية مع دول الجوار الإسلامي، لصالح تحقيق الأمن والاستقرار والتقدّم والتنمية الاقتصادية، بما في ذلك تطوّر عمليات الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية في القرار السياسي في العالم العربي، وكذلك في تطوير السياسات، وفي دعم نضال الشعب الفلسطيني
وتعُدّ المنطقة العربية منطقة نفوذ دولي حيوية جداً
بالنسبة لمختلف الأطراف لاعتبارات استراتيجية واقتصادية، وبالتالي فإن هذه
التحولات الدولية المحتملة قد تنعكس على واقع المنطقة العربية وعلاقاتها الدولية وعلى
القضية الفلسطينية وعلى الوضع الاقتصادي والأمني، وإن كانت درجات التوقع لهذه
الانعكاسات لا تزال غير دقيقة، خاصة وأن الساعين لتعديل النظام الدولي كانوا وما
زالوا جزءاً من منظومته وقواعده القائمة اليوم.
وفي ضوء هذ التغيرات الحاملة للتحولات الاستراتيجية
والتكتيكية في المنطقة العربية، تتوفّر الفرصة من جديد لإعادة التفكير والتموضع
العربي والجوار الإسلامي، بتفكيك
الأزمات في العلاقات الوطنية، وفي العلاقات
العربية البينية، والعلاقات العربية مع دول الجوار الإسلامي، لصالح تحقيق الأمن
والاستقرار والتقدّم والتنمية الاقتصادية، بما في ذلك تطوّر عمليات الإصلاح
السياسي ونشر الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية في القرار السياسي في العالم
العربي، وكذلك في تطوير السياسات، وفي دعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال
الإسرائيلي، وفي اتخاذ إجراءات تشريعية تضمن احتواء القوى السياسية والاجتماعية في
النظام السياسي بشراكة وفاعلية تسهم في حشد القوة الوطنية والعربية لمواجهة مختلف
التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية الداخلية والخارجية، بما يؤسس لعالم عربي
يعيش في ظل السلم الاجتماعي والمشاركة والشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة
وفق قواعد ناظمة وآمنة، ما يوفر فرصة للتفكير الجاد ببلورة دور ومكانة دولية للأمة
العربية تستحقها.