يتناول
هذا المقال تحليل تطورات
مفاوضات التهدئة للحرب على قطاع
غزة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر
2023، ويتوصل إلى أبرز معطياتها المؤثرة، والتي تشكّل نتائج جوهرية في مسار الحرب
والصفقة، ويتوصل ختاما لعدد من الاستنتاجات.
فقد شكّلت
معركة طوفان الأقصى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تحولا نوعيا في مواجهة
المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال
الإسرائيلي، وانتهت المعركة بنجاح خلال خمس ساعات
فقط. لكنّ إسرائيل التي فشلت في هذه المعركة عسكريا واستخباريا وسياسيا، استدرجت
غطاء أمريكيا وجسرا جويا عسكريا أمريكيا وأوروبيا لشن حرب الإبادة على الشعب
الفلسطيني المدني الأعزل والمحاصر في قطاع غزة.
ولم
تتمكّن إسرائيل في هذه الحرب، وخلال قرابة عشرة شهور من اندلاعها، من تحقيق أي أهداف
عسكرية معلنة معتبرة، وذلك رغم استخدام قوة نارية مفرطة ومتنوعة، حيث تحوّل جيشها إلى
عصابات قتل ونهب وسرقة وتدمير وتوحّش فقط، بسبب تحوّل الحرب إلى حرب إبادة ضدّ
المدنيين العزّل من النساء والأطفال وكبار السنّ والعاملين في الخدمة العامة
والصحة.
ولذلك فمنذ بداية شباط/ فبراير 2024 اتضح أنّ المشهد في
قطاع غزة يتمثل بحرب مقاومة فلسطينية فاعلة وقوة متماسكة تستنزف قوات الاحتلال
الإسرائيلي من الدبابات والمسيّرات والجنود المتوغّلين في القطاع، بينما يقوم
الجيش الإسرائيلي بعمليات تدمير وارتكاب حرب إبادة وارتكاب جرائم حرب بمختلف المعاني
القانونية لها، وبدا أن العبث الإسرائيلي العسكري والاستخباري والدبلوماسي
والسياسي قد استُنفد، ولم يعد له مكان في الصورة المكبّرة للحرب أمام الرأي العام الدولي الشعبي والرسمي بما في ذلك في الولايات المتحدة.
المعطيات الأساسية
حتى في ظل تصعيد وحشي مستمر ضد المدنيين العزّل، وبعد اغتيال القائد السياسي إسماعيل هنية في طهران، لم تعلن حركة حماس الانسحاب من المفاوضات، فيما تتمنّع إسرائيل وتخترع باستمرار أسبابا غير منطقية للرفض من جهة وللتأجيل من جهة أخرى، وكذلك استمرارها في ارتكاب جرائم الحرب والمجازر ضد المدنيين لإفساد جو التفاوض الإيجابي هذا
ربما أصبح
مسار المفاوضات للتوصل إلى تهدئة حتميا على مختلف الصعد والأطراف، خاصة من طرف
الجانب الأمريكي ومجلس الأمن الدولي، وتشكلت المرحلة الراهنة في التفاوض وفق
معطيات أساسية أهمها:
* موافقة حركة حماس على جميع قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة لأربع
مرات متتالية خلال شهور الحرب حتى 10 حزيران/ يونيو 2024.
* موافقة حماس على مبادرة الرئيس الأمريكي بخطوطها العريضة في 31
أيار/ مايو 2024.
* موافقة حماس على إطار "باريس 1" بالمراحل الثلاث كإطار
مرجعي لتفاصيل كافة المراحل.
* موافقة حماس على مقترحات "باريس 2" التي ركزت بالتفصيل
على المرحلة الأولى، والذي شارك في بلورته رئيس الوفد المفاوض الإسرائيلي، حيث قدّمت
حماس تعديلات طفيفة وإجرائية وفق التصريحات الأمريكية في الفترة 5-13 نيسان/ أبريل
2024.
* موافقة حماس على المقترح الإسرائيلي التفصيلي المعدل لـ"باريس
2" المقترح مع تعديلات طفيفة وإجرائية على التعديلات الإسرائيلية وقابلة
للجسر، كما أعلن وزير الخارجية الأمريكي في منتصف حزيران/ يونيو 2024.
* قدمت حماس تنازلا إجرائيا مهما بعد ذلك استجابة لطلب الولايات
المتحدة والوسطاء، بجعل وقف الحرب النهائي نقطة في مفاوضات تجري بين الطرفين بعد
حوالي أسبوعين من تطبيق اتفاق المرحلة الأولى، بشرط استمرار الهدنة/ أو وقف النار
المؤقت قائمة ما دامت المفاوضات لم تتوصل بعد إلى الاتفاق النهائي.
وقد قوبلت موافقات حركة حماس أعلاه على الدوام من قبل إسرائيل
بالرفض وباتهامات إجمالية للحركة، بل وباتهام مجلس الأمن الدوليّ والجمعية العامة
للأمم المتحدة وممثلي المنظمات الدولية الإنسانية بالانحياز إلى حماس،
وذلك رغم وصفها أمريكيا ومن الوسطاء العرب بالإيجابية والقابلة للتجسير مع الطرف
الآخر.
ومع
ذلك، وحتى في ظل تصعيد وحشي مستمر ضد المدنيين العزّل، وبعد اغتيال القائد السياسي
إسماعيل هنية في طهران، لم تعلن حركة حماس الانسحاب من المفاوضات، فيما تتمنّع
إسرائيل وتخترع باستمرار أسبابا غير منطقية للرفض من جهة وللتأجيل من
جهة أخرى، وكذلك استمرارها في ارتكاب جرائم الحرب والمجازر ضد المدنيين لإفساد جو
التفاوض الإيجابي هذا، حيث وفّرت لها الولايات المتحدة الغطاء الإعلامي والسياسي
من الانتقادات الدولية الشعبية والرسمية اللاذعة جدا، واستمرار ابتعادها عن ممارسة
أي ضغط حقيقي عليها لوقف أعمالها الإجرامية رغم صدور قرار مجلس الامن في 10
حزيران/ يونيو 2024 الداعي إلى وقف الحرب نهائيا، والذي قدمت مسودته الأولى
الولايات المتحدة نفسها.
نتائج التحليل
في ضوء التحليل أعلاه، توصّلت المقالة إلى أبرز النتائج
التي تحدد ملامح المرحلة القادمة، ومن أهمها:
* أن الكرة الدبلوماسية أصبحت الآن في ملعب الولايات
المتحدة والدول الكبرى للضغط على إسرائيل لقبول الاتفاق والشروع بتنفيذه، والتفاوض
على المرحلة الثانية والثالثة وفق الإطار العام لقرار مجلس الأمن الدولي.
* لم يعد وقف الحرب بشكل تام ونهائي مع نهاية المرحلة الثانية محطَّ
جدل دولي أو مع الوسطاء، بل هو جدل داخل إسرائيل، والذي من المسلّم به أن الاتفاق
الذي تشجّعه المنظومة الدولية والوسطاء، بمن فيهم الولايات المتحدة، هو التوصل إلى
وقف كامل للأعمال العدائية بين الطرفين وتحقيق هدنة مستدامة ووقف إطلاق نار فوري
ودائم من جميع الأطراف.
الرهانات الإسرائيلية على الانتخابات الأمريكية وتغير الرئيس بايدن كمرشح ديمقراطي أو فوز الرئيس ترامب بولاية جديدة؛ لا يعني أن الظروف الدولية ستسمح باستمرار الحرب أو على استعداد لتحمل مسئولية أعمال عسكرية إسرائيلية جديدة
* أنّ الطرفين المتحاربين، الإسرائيلي والفلسطيني، وضعا كافة
المصالح والمطالب التي يفترض أن يحققها كل منهما مع نهاية الحرب عبر المسار
الدبلوماسي التفاوضي، ولذلك لم يعد هناك الكثير مما تجب إضافته، غير أن افتعال أي
مطلب أو شرط جديد من أي طرف لا يتناسب مع قرار مجلس الأمن الدولي يعني أن هذا
الطرف يعارض الإرادة الدولية الجماعية، ولذلك يجب أن تتجه الضغوط إليه وليس إلى
الطرف الذي وافق على القرار وتطبيقاته وإطاره.
في ظل هذه الفلسفة فإن الرهانات الإسرائيلية على الانتخابات
الأمريكية وتغير الرئيس بايدن كمرشح ديمقراطي أو فوز الرئيس ترامب بولاية جديدة؛
لا يعني أن الظروف الدولية ستسمح باستمرار الحرب أو على استعداد لتحمل مسئولية
أعمال عسكرية إسرائيلية جديدة، والتي يسقط بين يديها الآلاف من الأطفال والنساء
وكبار السن والموظفين في الخدمات الإنسانية المحليين والدوليين، كما حصل خلال
الشهور الماضية (تشرين الأول/ أكتوبر2023- آب/ أغسطس 2024).
ويشار في هذا السياق إلى ثلاثة
عوامل تؤثر وتقلق الجانب الأمريكي:
الأول: أن التحركات الشعبية العربية
والإسلامية والأوروبية والأمريكية تتسبب بقلق للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي،
والتي يُخشى أن يتحول جزء منها إلى مسار فوضوي وأعمال عنف لا تحمد عقباها.
والثاني: أن استقرار الأنظمة العربية
والإسلامية القائمة أمر مشكوك فيه على المدى البعيد، وأن العوامل التي شكّلت
استقرارا نسبيا سوف تتعرض للتآكل في حال استمرت الحرب واستعرت أكثر مما حصل.
والثالث: أن القدرة الإسرائيلية على إنجاز
الأهداف المعلنة للحرب ثبت فشلها وعجزها، وأن الانقسام السياسي- الأمني والعسكري،
والسياسي- السياسي، وبواكير الانقسام الاجتماعي، قد تطيح بالاستقرار في إسرائيل
ذاتها، وهو الذي يمثل قاعدة الاستناد لتحقيق المصالح الأمريكية والأوروبية من
الدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة.
ويتزايد لدى الإدارة الأمريكية استشعار مخاطر هذه
العوامل والتي قد تتسبب بضرر بليغ على اتفاقات السلام وعمليات التطبيع الجارية مع أكثر
من سبع عشرة دولة عربية وإسلامية، فضلا عن التأثير السلبي على الأمن والاستقرار في
الشرق الأوسط، وما قد يفرض توسع الحرب والمواجهات المسلحة والأمنية نسبيا أو أكثر
في المنطقة، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية لتحديد موعد للتفاوض على الصفقة
المعروضة بعد تعديلات الطرفين، والذي صدر ببيان مشترك للوسطاء الثلاثة، دولة قطر
والولايات المتحدة وجمهورية مصر العربية، ليعقد الاجتماع في 15 آب/ أغسطس 2024.
ولذلك يُعتقد بأن الرهان الذي يفكر فيه ويأمله رئيس
الحكومة الإسرائيلية اليمينية بنيامين نتنياهو ربما يكون حالما وغير واقعي،
وبالطبع من معه في الحكومة الذين ليسوا أقل منه خروجا على الواقع والمنطق والممكن،
خاصة في ظل الإعلانات الرسمية من الجيش الاسرائيلي عن تراجع وتآكل قدراته القتالية
البرية في الآليات والذخائر والأفراد في أواسط تموز/ يوليو 2024.
وفي ضوء هذه المعطيات والنتائج والعوامل المؤثرة يخلص
المقال إلى عدد من الاستنتاجات، أهمها:
* أن إسرائيل لم تعد تملك الكثير من الخيارات، وهي في مأزق متعدد الأبعاد، وأن خيار وقف الحرب بشكل دائم أصبح الخيار الأفضل لها في ظل ظروف الميدان، وتوجهات الرأي العام الدولي والعربي، وتآكل مبررات مواقف الصمت أو الضعف أو العجز للسلطة الفلسطينية والدول العربية والإسلامية، وكذلك تفاقم أزمة الولايات المتحدة والغرب عموما مع النظام الدولي والشرعية الدولية والقانون الدولي والرأي العام في بلادهم، سواء السياسي أو الشعبي أو الإعلامي أو الحقوقي، وكذلك فرص تنامي توسع الصراع الإقليمي بسبب سلوك إسرائيل المتهور بالقيام بعمليات اغتيال سياسية وغيرها في أراضي دول ذات سيادة، كما في دول لبنان وسوريا وإيران.
يوفر إفلاس إسرائيل وبنك أهدافها المؤثر على المسار العسكري للمعركة، والفشل الدبلوماسي والإعلامي الدولي لإسرائيل، فرصة قوية للمقاومة الفلسطينية وحركة حماس لتحقيق الكثير من الأهداف بالعملية الدبلوماسية المدعومة بالقوة العسكرية في مواجهة الجيش الإسرائيلي في الميدان، والصمود الشعبي المتماسك إلى حد كبير في قطاع غزة، وقدرة المقاومة على المناورة وإعادة التموضع
* يوفر إفلاس إسرائيل وبنك أهدافها المؤثر على المسار العسكري للمعركة، والفشل الدبلوماسي والإعلامي الدولي لإسرائيل، فرصة قوية للمقاومة الفلسطينية وحركة حماس لتحقيق الكثير من الأهداف بالعملية الدبلوماسية المدعومة بالقوة العسكرية في مواجهة الجيش الإسرائيلي في الميدان، والصمود الشعبي المتماسك إلى حد كبير في قطاع غزة، وقدرة المقاومة على المناورة وإعادة التموضع بشكل يعجز الجيش الإسرائيلي عن فهمه وإدراكه، وبالتالي العجز عن مواجهة هذه الديناميكية أو إعاقتها.
* في مقابل ذلك، تستمر نظرية الفشل الأمني والعسكري وآثارها النفسية على قيادة الجيش الإسرائيلي عموما وفي الميدان، ناهيك عن تفاقم أبعاد المعركة في التأثير على تنامي المقاومة في الضفة الغربية، وتحفيز المقاومة في لبنان للتصعيد في المعركة مع إسرائيل، إضافة إلى بعض الجهود الأخرى المساندة للمقاومة الفلسطينية بشكل جزئي ومتفاوت، واستمرار الضغط الشعبي العربي في عدد من الدول المهمة وخصوصا في الأردن، وكذلك الضغط الشعبي والسياسي والحقوقي في أوروبا والولايات المتحدة ذاتها، لوقف الحرب على غزة ووقف إرسال السلاح إلى إسرائيل، ومحاكمة إسرائيل بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، ومن جهة أخرى تنامي الضغط الشعبي العربي لوقف التطبيع مع إسرائيل وتجميد أو إلغاء معاهدات السلام الموقعة بينها وبين كل من منظمة التحرير ومصر والأردن.
* لا تزال الإدارة الأمريكية تتعامل مع الحكومة الإسرائيلية دون ممارسة ضغط حقيقي عليها، سواء لتوقيع صفقة التهدئة أو لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة، أو السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والغذائية في قطاع غزة وإعادة خطوط الخدمات الأساسية، وهي كذلك تستبعد التفكير بمعاقبة إسرائيل، ناهيك عن أنها تحاول منع النظام الدولي والأمم المتحدة من إدانتها، وذلك رغم التحولات الأمنية والعسكرية الخطيرة في المنطقة، والتي قد تهدد المصالح الأمريكية، فالمؤشرات على تفكير جادّ لدى الإدارة الأمريكية لا تزال ضعيفة لإلزام إسرائيل ولجمها لوقف حرب الإبادة وجرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني في غزة من جهة، ولوقف تورّطها بمعارك أمنية وعسكرية إقليمية متهورة قد تتسبب بتدهور الأمن والسلم الدولي في الشرق الأوسط؛ ما قد يحمل الولايات المتحدة مسئوليات عسكرية وأمنية جديدة من جهة أخرى.
* يعد الاحتجاج بعدم التوصل إلى ترتيبات اليوم التالي لوقف الحرب في إدارة قطاع غزة، وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على فرض وقائع وتغييرات بخصوص إدارة غزة بعد الحرب، سببا غير منطقي، لكن إسرائيل تستخدمه أيضا في التذرع وفي تبرير موقفها للاستمرار في الحرب، وذلك رغم فشلها في حرب الإبادة على المدنيين العزل في قطاع غزة، وعجزها عسكريا وأمنيا أمام المقاومة الفلسطينية القوية والمتماسكة.