هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
يحكى أن غريباً وضيعاً، احتال على الأهالي الطيبين في إحدى القرى النائية، ولما اكتسب ثقتهم بعد فترة من التودد والوعود الناعمة، قام بتشكيل عصابة من الأشرار، ونجح في السيطرة على كل شيء بعد اغتياله لعدد كبير من الكبار والمتعلمين والمدافعين عن الحق في القرية. ولما استتب له الوضع شيد لنفسه قصراً مهيباً بحديقة واسعة تحيطها الأسوار العالية، وتحرس بوابتها كلاب متوحشة مدربة على الافتراس.. كانت تفتك بكل من يحاول الدخول إلى القصر، وحرص القاتل الوضيع على غرس مشاعر الخوف في نفوس الأهالي، وسعى لتحصين نفسه، فأمر بتعليق لافتات في القرية تحذر من اقتراب أي شخص ناحية القصر، لأن الكلاب لن ترحمه وسوف تمسحه "من على وش الأرض".
(2)
إمعانا في الفوبيا، كان المحتل الوضيع يأمر أعوانه بالمشي بين الناس والمبالغة في رواية حوادث الافتراس لكل من اقترب من بوابة القصر. وبالفعل، عمت حالة الفوبيا وتحول عدد غير قليل من سكان القرية إلى أتباع يخدمون رئيس العصابة ويدينون له بالولاء والنفاق، حتى أنهم اعتبروا لافتات التحذير التي كان يعلقها "دستوراً" ينظم علاقتهم بالقصر ويمنع الاقتراب منه. ولما كان أعوان الوضيع يضطرون للدخول والخروج لزوم تلقي الأوامر وتقديم الخدمات، فقد تعرض عدد منهم للافتراس، وبدأت الفوبيا تنتقل إلى أعوان الدموي الوضيع بعد أن تبين لهم أنه كان يخطط للتخلص منهم واحدا وراء الآخر، فقد سكنته الوساوس وساورته الشكوك بأن أعوانه قد يتخلصون منه في أي لحظة، فبادر بالتخلص منهم بحجج مختلفة، منها أنهم لم يتبعوا تعليمات التعامل مع الكلاب.
(3)
سرت حالة من الجدال والقلق بين رئيس العصابة وأعوانه، وطالبوه بإبعاد الكلاب حتى لا تهدد حياتهم، فرفض طلبهم مؤكداً إن الكلاب تحمي حياته هو، فلا يمكنه أن يتخلص منها، وتجرأ أحدهم فقال له: لقد خسرنا الكثير من زملائنا بسبب كلابك المتوحشة، ولا بد من إبعادها. غضب الوضيع، ونهر فرد العصابة قائلاً: أنت درست الكلام ده قبل ما تقوله؟ هذه خير كلاب الأرض، ولن أسمح لأي كائن من كان أن يتعرض لها.
بادر آخر أكثر هدوءاً وقال لزعيم المنسر: يا بوس.. نحن لسنا ضد الحفاظ على حياتك بالطريقة التي تطمئنك، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب حياتنا أيضاً، فنحن أعوانك المخلصون ونفديك بالرقاب.
ابتسم الوضيع وقال بطريقته المعروفة: ساحيييح.. عشان كده لازم نتفق أن حياتي مرتبطة بحياتكم، ولكي نضمن ذلك لا بد أن أظل آمنا في هذا القصر بعيدا عن أيدي الأوباش أهالي القرية، وغداً سوف أجد طريقة لتأمين حياتكم من الكلاب المفترسة.
(4)
انصرف الأعوان بعد اتفاقهم على تفويض المتحدث الهادئ بمقابلة زعيم العصابة في الغد للتعرف على أسلوبه في تأمينهم من الكلاب. وفي اليوم التالي، ذهب فرد العصابة إلى القصر فوجد الكلاب المتوحشة في مكانها وراء البوابة، وارتعد من نباحها العنيف ومنظر أنيابها المكشوفة المستعدة لتقطيع لحمه.
وقف فرد العصابة خارج السور ينادي: يا زعيم.. يا زعيم أين ما اتفقنا عليه؟
نظر الزعيم من شرفة القصر وقال لفرد العصابة بازدراء: لماذا تصرخ يا غبي.. لقد غيرت الدستور من أجل تأمين حياتكم.
لم يفهم فرد العصابة شيئاً، فقال: دستور إيه يا بوس اللي بتتكلم عنه.. الكلاب مسعورة ومستعدة لتقطيع لحمي.
سأله رئيس العصابة باستنكار: ألا ترى أن اللافتة المعلقة على الباب تغيرت.. لقد أمرت بتغيير اللافتات القديمة، وكتبت: "كلاب القصر لا تعض الأعوان المخلصين".. انت ما بتعرفش تقرأ؟
قال فرد العصابة: يا زعيم أنا بعرف اقرأ، لكن الكلاب هي اللي ما بتعرفش تقرأ، فما الذي يجبرها على فهم دستورك والعمل به؟ وما الذي سيمنعها من التهامي كما التهمت زملائي من قبلي؟
(5)
يومها قال عجوز في القرية الملعونة: القاتل الوضيع في قصره، واللصوص الأشرار في عملهم المفسد، والكلاب هي الكلاب، والخوف يسري في القرية حيطاناً ونفوس، فما الذي سيتغير إذا تغيرت اللافتة على باب القصر؟
(6)
لا تحدثني عن الدستور في ظل وجود الطاغية الوضيع، لا تحدثني عن بنود ونصوص لا نحصل منها إلى على الفقر والقمع والخوف والتمزق.. حدثني عن القرية المنكوبة، كيف تستفيق وتطرد اللص القاتل وتعيد صياغة حياتها بما يليق من حرية وكرامة وعدل وحياة فاضلة، فأول الدستور أن نكون مواطنين لا ضحايا، شعباً لا رعايا.