مثّلت لحظة انقضاض العسكريين على الحكم في المنطقة العربية؛ بداية إظلام كامل لكل ما كان حقّا مكتسبا قبل زوال نظم الاحتلال، وتحولت المطالب بالحقوق إلى جرائم تستحق التنكيل بأصحابها باسم الوطنية والحاجات القومية. وترافق مع هذا الخطاب الداخلي التأكيد على وجود عداوات مع النظم الإمبريالية وإسرائيل، ليتم قصف كل مطلب داخلي بمدفعية الشعور بالخطر، وتم قبول معادلة "قمع الحريات السياسية وتقشّف اقتصادي؛ مقابل الحفاظ على الدولة وتماسك الجبهة الداخلية".
تراجعت فرضية القبول بالمعادلة عقب هزيمة 1967 في مصر وسوريا، لكن خطاب التحرير ظل مسيطرا على ما عداه. وكانت لحظة التحرير في مصر سببا في دعم النظام الحاكم وقتها، لتأتي كامب ديفيد 1978 وتعيد العلاقة بين النظام الحاكم والمجتمع إلى التوتر مرة أخرى. واستمر التوتر في العلاقة بين المجتمع المصري والسلطة السياسية بوجود عدة عوامل، منها السياسي، ومنها الاجتماعي، وأهمها على الإطلاق العامل الاقتصادي الذي كان يضعف بمرور الوقت. صحيح أن التراجع الاقتصادي لا يمكن قياسه بالوضع الحالي، لكن كان هناك تراجعا يمس احتياجات المجتمع بشكل أدّى في النهاية لاندلاع ثورة يناير 2011.
قامت المؤسسة العسكرية بالسيطرة على مفاصل الدولة، فتراخت في مجابهتها لحراك الثورة عقب التنحي؛ لتُظهر حجم الغوغائية وعدم المسؤولية في تحركات القوى السياسية واتخاذهم للقرارات (وهم كذلك بالفعل)، لكنها مقابل هذا التراخي المقصود لم تسمح لمطالب الثورة بأن تتمثّل بشكل حقيقي. تركت للقوى السياسية حيازة المؤسسات (مجلس الشعب ومجلس الشورى والرئاسة والدستور)، لكنها لم تسمح لهم بتفعيل وظائف وقرارات هذه المؤسسات، لتوقع العداوة بين طليعة الثورة وبين ظهيرها الشعبي، وفي كل لحظات الأزمات كانت تخرج القيادة العسكرية بمظهر المنقذ للدولة من السقوط أو انتهازية السياسيين، فبدا الثوب ناصعا أمام شعب يُجلّ ويقدر المؤسسة أصلا، فطالبها قطاع من المجتمع بالتدخل (وكانت تعدّ نفسها لتلك اللحظة) فاستجابت.
قامت المؤسسة العسكرية بالسيطرة على مفاصل الدولة، فتراخت في مجابهتها لحراك الثورة عقب التنحي؛ لتُظهر حجم الغوغائية وعدم المسؤولية في تحركات القوى السياسية
كان الانقلاب العسكري مرتبطا بنزعة شوفينية واضحة، وساد الخطاب عن الخطر المحدق بأمن البلاد جراء وجود جماعة دينية في سدة الحكم (أصبحت إرهابية فيما بعد)، وتم تبرير الانقلاب بخطاب قومي ودعاية إعلامية؛ وصلت إلى حد "أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي". وشارك وزير الدفاع - حينها - عبد الفتاح
السيسي في رفع سقف الخطاب الوطني، وتدخله لأجل "إنقاذ مصر"، ودعَمَه ما يُسمى بالتيار المدني، المغرِق في الخطاب القومي. وكان من المهم لتسويق ذلك الخطاب، أن يتم ربط الإخوان بأمريكا وإسرائيل لتدني مكانتهما في الوجدان المصري.
جرى كل ذلك على مدار سنوات، لتأتي لحظة يصحو فيها أنصار الدولة على ضابط في المؤسسة "المقدسة" استولى على الحكم بمباركتهم، ويتحدث عن "تنسيق كويس (ممتاز) مع
إسرائيل".
الإشكال المطروح هنا لا يتعلق بمجرد التنسيق أو التعاون مع دولة محتلة تريد تدمير كل دول المنطقة، ونرى ممارساتها الاستئصالية في فلسطين كمؤشر على توجهاتها ضد المنطقة، بل الإشكال في ما أحدثه هذا الجنرال ضئيل الحجم والمكانة في الوجدان المصري؛ بدءا من انقلابه منتصف 2013، وأول ما أحدثه تغيير الشعور المسالم والعاطفي لقطاع من المجتمع، ليجعله على استعداد لتقبل مذبحته ضد مخالفيه، أو سجن معارضيه. ولم يحدث أن تعامل قطاع ملحوظ من المجتمع بتلك اللامبالاة مع نزيف الدم من قبل، ومَن شاهَد تدحرج كرة الثورة في كانون الثاني/ يناير؛ يعلم جيدا أن من أسباب دفع الحراك سقوط قتلى أثناء الاحتجاجات، وكانت اشتباكات 2 شباط/ فبراير التي دخلت الجمال فيها إلى ميدان التحرير سببا في قصم ظهر مبارك وزيادة الحشود ضده، واستوعب الجنرال الدرس، فمهّد لمجازره واستخدم آلة إعلامية وسياسية "مدنية" لدعم مجازره.
لم يحدث أن تعامل قطاع ملحوظ من المجتمع بتلك اللامبالاة مع نزيف الدم من قبل، ومَن شاهَد تدحرج كرة الثورة في كانون الثاني/ يناير؛ يعلم جيدا أن من أسباب دفع الحراك سقوط قتلى أثناء الاحتجاجات
هذه العملية احتاجت قبلها تعميق مشاعر العداوة داخل المؤسسة الأمنية للإسلاميين بشكل خاص، وللمعارضين بشكل عام. هناك عداوة قديمة يتم زرعها داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية للمعارضة وللإسلاميين، كجزء من عقيدة تلك المؤسسات، لكنها تفاقمت بفعل الثورة، وبفعل الشحن الذي يتم داخليا لتسهل عملية إباحة قتلهم بدم بارد، كما ظهر في فيديوهات فض رابعة وغيرها وفي سيارة ترحيلات سجن أبي زعبل.
تحتاج عمليات القمع والقتل إلى دعم غير محدود، وهو ما يعلمه الجنرال المذكور، فبحث عن الدعم الأخس على الإطلاق، عبر دولة الاحتلال الصهيوني، وحملت اللحظات الأولى من انقلابه قيام طيران الاحتلال بشن غارة داخل الحدود المصرية في التاسع من آب/ أغسطس 2013، سقط جراءها خمسة مصريين، وذكرت حينها القناة الأولى الإسرائيلية أن التنسيق تم مع السيسي لينال دعم الأمريكيين في صراعه ضد أنصار مرسي، واستمرت الغارات "بكثافة"، فنقلت نيويورك تايمز مطلع شباط/ فبراير 2018 أن طيران الاحتلال "قام بأكثر من 100 غارة
داخل سيناء خلال العامين الماضيين"، أي أننا أمام غارة كل أسبوع تقريبا، لكن السيسي
عندما تحدث لقناة CBS الأمريكية ذكر أن الطيران المصري هو الذي يحتاج للدخول إلى الأجواء التي سماها "إسرائيلية".
الإشكال ليس في مجرد التنسيق، بل في تغيير عقيدة الجيش والشرطة والوجدان المصري كذلك ناحية دولة الاحتلال، فتتحول إلى صديقة وحليفة، بينما يتحول الفلسطينيون إلى أعداء وإرهابيين
الإشكال - كما سبق - ليس في مجرد التنسيق، بل في تغيير عقيدة الجيش والشرطة والوجدان المصري كذلك ناحية دولة الاحتلال، فتتحول إلى صديقة وحليفة، بينما يتحول الفلسطينيون إلى أعداء وإرهابيين، وهذا تحول شديد الخطورة على الأمن المصري، ولا ينبغي السماح به. وقد خاطبنا ضابط ذو رتبة كبيرة أثناء فترة التجنيد قائلا: "إن الإرهابيين في سيناء ليسوا مشكلتنا، وسوف ننتصر عليهم، لكن فرحتنا ستكون يوم تحرير القدس من إسرائيل".. وهذا الخطاب الذي يمثّل الوجدان العسكري والمصري بحق لقي تشجيعا من آلاف الجنود الحاضرين حينها، وتغييره على يد هذا الجنرال يمثّل كارثة تلائم قبح فترته وطلعته.
ما يجري من تغيير في صميم الوجدان المصري من تعاطفهم وتعاضدهم مع بعضهم، وبغضهم وعدائهم لدولة الاحتلال؛ يذهب بنا إلى تفكيك العرى الوطنية والعروبية، ويلقي بالمجتمع ومن ثَمَّ الدولة إلى هوة سحيقة من الزعزعة وعدم الاستقرار، مما يطرح سؤالا عمن يمثل الخطر الحقيقي على أمن مصر، وإذا تم تحديد الخطر، فما السبيل إلى إبعاده؟