عندما أجريت حواري مع الشيخ عبد الحميد كشك، كان الدكتور فرج فودة قد اغتيل حديثاً، وكان طبيعياً أن أساله عن رأيه في عملية الاغتيال، ولا أنكر أن هذا الرأي مثل لي مفاجأة، وبدا لي أنه يخالف المعروف عن الرجل، كخطيب مهيج، وإمام ثائر!
كان الدين حاضرا بقوة في عملية الاغتيال، فمن قتله قال إنه اندفع لهذا الفعل من موقف ديني، وبعض المشايخ برروا عملية الاغتيال، ومن بينهم الشيخ محمد الغزالي، الذي ذهب لمحاكمة القتلة، كشاهد رأي لا شاهد رؤية، منحازاً للمتهمين بقتله، وبما يمثل خروجاً على منهجه في
الدعوة، فيبدو أنه والشيخ كشك قد تبادلا المواقع. وبعيدا عن المحكمة، قال الغزالي في ندوة متعجباً من هذه الضجة التي صاحبت عملية الاغتيال، فماذا هناك؟!.. " فرج فودة كلب ومات"!
لقد أجاب الشيخ كشك على سؤالي بقوله: "لقد أفضى فرج فودة إلى ما قدم.. ونحن دعاة لا قضاة"!
الشيخ والإخوان
وفي الحقيقة، فإن الإجابة تمثل خروجاً على خطاب الشيخ كشك من حيث الشكل، ففي الموضوع، لم يثبت على الشيخ، رغم حماسه وخطبه الملتهبة، أن كفر أحداً، أو دعا لقتل أحد. فهو يهاجم، ويشتد في الهجوم، ويسخر أيضا، فيطلق على الكاتب "أنيس منصور" لقب "ابليس مسطول"، وعلى الشيخ "محمد سعاد جلال" لقب "الشيخ بيرة"، تعليقا على فتواه بأن "البيرة حلال"، أيضاً بالنظر إلى شربه لها، لكنه لا يتجاوز الهجوم الحاد، والسخرية اللاذعة، إلى الاتهام بالتكفير أو الدعوة للقتل!
"دعاة لا قضاة"، هو عنوان الكتاب الذي أصدره المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المستشار "حسن الهضيبي" من سجنه، في وصفه لجماعته، وهو الذي استدعاه الشيخ كشك في وصفه لحالته: "نحن دعاة لا قضاة". ولم يكن الشيخ من الإخوان، لكنه كان قريباً من وجدانهم، وهو من بين الدعاة الذين عرف الشباب الالتزام بفضل خطبهم، فسهّل هذا من مهمة انتقالهم للجماعة بعد ذلك، وكان من بين الأئمة الذين يحرص الإاخوان على شد الرحال اليهم لصلاة الجمعة. ولعل الأقرب إلى ما تمثله حالة هؤلاء الدعاة؛ هي جماعة الدعوة والتبليغ، مع خلاف بطبيعة الحال في الأداء، والتي وصفها الشيخ كشك بأنها تسوق الناس للمساجد،. ثم بعد هذا يبحثون عن جماعة تحتويهم، وتستغل طاقاتهم، وتوفر لهم الاحتياج البشري لفكرة أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا سيما إذا كانوا مغتربين في القاهرة، وفي مدينة تبدو قاسية على المغتربين، حتى يبدو المغترب فيها وكأنه ريشة في مهب الريح. (بعض الأعمال الأدبية رصدت حالة المغترب في المدن التي تبدو للإنسان الفرد بلا قلب).
عندما سألت الشيخ كشك عن رأيه في ظاهرة تعدد الجماعات الإسلامية، التي قالت بعض التقارير الأمنية أنها تجاوزت 44 جماعة،؟ أجاب بأنها قد تكون ظاهرة صحية، وقد تكون ظاهرة مرضية. فتكون صحية إذا جرى التعاون والتكامل، كأن تقوم جماعة التبليغ بسوق الناس إلى المساجد، فتأخذهم الجماعة الأخرى إلى مرتب أخرى من العمل الإسلامي، لكنها - كما قال - قد تتحول إلى ظاهرة مرضية، إن تنازعت وتقاتلت وكفر بعضها بعضا.
الشيخ والسماوي
وعندما سألته عن واقع الحال، لم يشأ أن يسرف في الحديث فيه؛ فقدم نصائح دون أن يقوم بتشريح الظاهرة. وكان قد عانى منها في تجربته داخل السجن، فبعض المتشددين كانوا لا يصلّون إلا خلف إمام من جماعتهم، وكانوا يرفضون الصلاة خلف إمام ليس من شيعتهم، ولو كان بحجم الشيخ عبد الحميد كشك!
وإجابته على سؤالي كانت تبدو دبلوماسية بالمقارنة بإجابة داعية عُرف بالهدوء، وهو الشيخ "طه السماوي"، الذي كان يُحسب على جماعات التكفير، ويمثل أستاذاً لقادة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد؛ الذي قال لي وأنا أحاوره: "كل فتى نبتت له لحية يريد أن يكون أميراً، وربما أميراً للمؤمنين"!
وقد جمع السجن بين الشيخين "كشك" و"السماوي"، وأنتجت هذه الفترة قصيدة مطولة كتبها "السماوي" في مديح الشيخ كشك، لم أحفظ منها سوى بعض الكلمات:
"قالوا من أنبأك بأن ابن كشك قائد بطل/ قلت الشدائد...."
وكان الشيخ عبد الرحمن بن لطفي، صهر "السماوي" وزوج شقيقته، ومن تبقى معه من تلاميذه لآخر يوم في حياته، يحفظ القصيدة عن ظهر قلب، وفي كل مرة كنت أهم فيها بالكتابة عن الشيخ كشك، كنت أفكر في طلب القصيدة مكتوبة منه، وهو ما لا يمكنني الآن، فقد مات في سجنه بعد الانقلاب العسكري.
ولم يكن يخلو الأمر من فكاهة، لا سيما ومع روح الدعابة التي كان يتسم بها الشيخ كشك.
لقد كان الشيخ السماوي يتحدث بالفصحى، وربى أبناءه على ذلك، وحدث في سجون مبارك أن تعرض للتعذيب الشديد من أجل حمله على التخلي عن الحديث بها، وطلبوا منه أن يغني أغنية لأم كلثوم، لعلها "هو صحيح الهوى غلاب"، لكنه مع هذا لم يفعل. وفي السجن دخل للاستحمام، وظل يطلب حاجاته قطعة، قطعة، فيلبي الشباب طلبه، إلى أن وصل إلى "الفانلة"، فنطقها بعربية مهجورة، على ما يبدو، لأنها في بعض المعاجم تعرف بهذا الاسم، مع شرح لمواصفاتها!
ارتبك الشباب، فلما يعرفوا المقصود بطلب الشيخ "طه السماوي"، وهو اسم الشهرة له، فقد كان اسمه "عبد الله"، ولعل الاسم الأخير هو اسم الشهرة لكنه كان يحب أن ينادى به، وهتف الشيخ كشك ضاحكاً: "تكلم عربي يا شيخ عبد الله حتى لا تموت من البرد"!
الشيخ والسفر للخارج
إن الشيخ عبد الحميد كشك، كان وهو يقول لي "نحن دعاة لا قضاة"؛ يُظهر تمسكه بحدود مهنته التي أحبها وفضّلها على مهنة التدريس، وقد عُرض عليه أن يعمل أستاذاً في جامعة الإمام بالسعودية، فرفض، كما رفض فكرة ترك
مصر والسفر للخارج، عندما كان السفر بهدف إسكاته، وكمقابل لتركه منبره، ولم يقبل به حتى بعد أن حيل بينه وبين هذا المنبر.
وقد كان مثيراً للدهشة، وهو يرفض طريقاً يبدو ممهداً لعضوية البرلمان، وكان يمكن له أن يتغلب على قرار منعه من
الخطابة بواسطة الحصانة البرلمانية، كما فعل الشيخ صلاح أبو إسماعيل (والد حازم) الذي كان مع كل خطبة معارضة تستدعيه مباحث أمن الدولة للتحقيق في موضوعها، فلما نال العضوية في برلمان سنة 1976، حيث استمر عضواً فيه إلى وفاته، استدعاه نائب رئيس جهاز مباحث أمن الدولة "فؤاد علام"، فاتصل بوزير الداخلية اللواء حسن أبو باشا لمقابلته، فدخل عليه وهو يقول له: "يطلع مين فؤاد علام يا معالي الوزير الذي يتجاوز الحصانة البرلمانية ويستدعي عضواً بمجلس الشعب للمثول أمامه؟".
ويبدو أن الوزير عرف بسبب الزيارة، فاستدعى "فؤاد علام" إلى مكتبه، ليكون معه لحظة دخول الشيخ صلاح، فأجابه: "يطلع الرجل ده"!
كان الشيخ صلاح أبو إسماعيل، يعرف اسم "فؤاد علام" كجلاد من جلادي السجون في عهد عبد الناصر، التي استقبلته هو شخصياً، وورد اسمه في مذكرات القوم بعد ذلك، لكن سؤاله "يطلع مين فؤاد علام..؟!" الهدف منه الحط من قدره، والتقليل من قيمته، عندما يتعامل مع عضو بالبرلمان!
وقد طلب وزير الداخلية من نائب رئيس جهاز أمن الدولة التوقف عن استدعاء نائب في البرلمان؛ تمنع حصانته البرلمانية مثل هذه الاستدعاءات، مهما احتد في خطبه!
رفض عضوية البرلمان
في الاستعداد لانتخابات مجلس الشعب في سنة 1987، التي خاضها الإخوان على ما سمي بقائمة "التحالف الإسلامي" التي تضم الجماعة وحزبي "العمل" و"الأحرار"، نشرت الصحف أن الشيخ كشك سيكون مرشح التحالف على قائمة شرق القاهرة، لكنه لم يترشح، ولم يصدر نفياً بذلك، وعندما التقيته بعد سنوات، سألته عن حقيقة هذا الخبر! وأجاب الشيخ بأنه فوجئ باسمه منشوراً في الصحف، فاتصل بالأستاذ جابر رزق، رحمه الله، (الصحفي الإخواني المعروف)، والذي ربما كان مسؤولاً عن نشر مثل هذه الأخبار، وربما كان قد تقرر ترشيح الشيخ كشك، والحصول على موافقته تعد "تحصيل حاصل"، فمن ذا الذي يرفض عضوية البرلمان، بسهولة وبدون أن يسعى إليها؟!
لقد سأله جابر رزق: وما الذي يغضبك في الأمر يا مولانا؟ ليرد الشيخ كشك: أنتم لم تحصلوا على موافقتي!
وعاد "رزق" ليقول: إذا كان الغضب مرده إلى عدم الحصول على موافقته، فها هو يطلب موافقته على الترشح على رأس قائمة التحالف الإسلامي في شرق القاهرة، ولعله فوجئ والشيخ يعتذر عن هذا العرض!
كان شيوخ، وقادة سياسيون، يأتون مبكراً إلى مكتب الجماعة بالتوفيقية من خارج القاهرة ومن داخلها، طلباً للرضى، ولترشيحهم على قوائم التحالف الاسلامي أو في مواقع متقدمة فيها، فيجدون المقر لم يفتح بعد، فيكملون نومهم في سيارتهم انتظاراً لفتحه، لكن الشيخ كشك يعرض عليه، وبدون طلب منه، أن يكون الأول على القائمة، فيرفض، وهو ما كان مثار دهشتي، فسألته عن سبب ذلك، فقال إن مهمة الداعية هي بناء النفوس وليس دخول مجلس الشعب!
ثم يستطرد: من أين يأتي الداعية بالوقت الكافي ليبدده في مكاتب الوزراء والمسؤولين بحثاً عن وظيفة لهذا، ونقل ذاك من وظيفة إلى أخرى؟!
رحم الله الشيخ كشك.