(1)
يحدثونك عن حماس فيقولون:
إنها انتحرت، وألقت بالشعب
الفلسطيني في المحرقة، ويؤكد أولئك الناطقون باسم
العقلانية والحسابات الاستراتيجية، أن ما فعلته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
حماقة لن تدفع ثمنها وحدها، بل يدفع الفلسطينيون والمنطقة كلها، وتنزلق القضية
الفلسطينية إلى هاوية جديدة كما حدث بعد النكبة، وبعد النكسة، وبعد كل حرب خاسرة..
في تدويناتها النابعة من قلب
الحدث كتبت الروائية الفلسطينية الشابة هبة أبو ندى قبل أيام قليلة من استشهادها: "في المعارك الصعبة يخسر العقلانيون والعاطفيون، ويثبت المؤمنون فقط".
لم يُرحني وضع "العاطفيون" بجوار
"العقلانيون"، لكنني فهمت القصد بجلاء ناصع.. لا يكفي العقل للحكم على
قرارات نابعة من عقيدة، مهما كانت التضحيات التي تحتاجها تلك القرارات، وبالتالي لا
يمكن للعقل البارد أن يفهم سخونة المواقف المرتبطة بقيم عليا مثل الإيمان والكرامة
والشرف، لأن العقل البارد صار محتلاً بمفاهيم من خارج الروح، صار أقرب إلى ميزان آلي
يستخدم في "نظام التسليع" حيث كل شيء بثمن، وبالتالي لا يستطيع ذلك
العقل البارد (منزوع العقائد) أن يفهم الأشياء التي لا تباع ولا تشترى.. الأشياء
التي لا تخضع لشروط السلعة.
(2)
لا أعبأ بكلمات ومواقف أسماء مثل
عمرو أديب وأحمد موسى وكل أولئك الذين يتحدثون بعد مراجعة جيوبهم وليس رؤوسهم، والقصد
أنهم يتحدثون بعد مطالعة التعليمات في الهواتف المحمولة في جيوبهم، من دون داع
لاستخدام الرأس في التفكير.. فقد تحول هؤلاء الأتباع إلى مجرد "جيوب"
تقاس قيمتها بما يلقى فيها من أموال أو كلمات عليهم ترديدها دون فهمها أو الإيمان
بها..
ما يهمني أكثر هو نوعية أخرى
من أصحاب العقول الباردة الذين يتصورون أنهم يتحدثون من خلال مفاهيم وقناعات وقيم
إنسانية وعلمية، أولئك الذين يتوهمون أنهم ينطقون بالحكمة ويحسبون أنهم يحسنون
صنعاً، من غير أن يخطر ببالهم أن عقولهم محتلة، وحكمتهم زائفة، ورؤيتهم مستعارة. وبرغم
أنني قلت في المقال السابق انني سأكتب بالأسماء، إلا أن تحديد أسماء بعينها قد
يتسبب في تقييد الظاهرة وتحويلها إلى اعتراض على رأي شخص بعينه، بحيث يبدو المقال
تهجما على هذا أو ذاك، وليس كشفاً لمرض عقلي أصاب قطاعا كبيرة من النخبة الفاعلة
التي تنشر مرضها على نطاق واسع من خلال حضورها القوي في الإعلام والتدريس وزرعها
في مختلف وسائل الاتصال بالجماهير، وقدرتها على نقل العدوى لحشود يتم إضعاف
مناعتها عمدا من جانب القوى القادرة، صاحبة المصلحة في انتشار وباء احتلال العقول.
(3)
في واحدة من سهرات الثورة بعد
25 يناير سألني المستشار زكريا عبد العزيز (رئيس نادي القضاة الأسبق): تعرف فلان؟
- للأسف لا.. خير؟
- كاتب مقال محترم في صحيفة "الشروق"،
فقلت أنبهك له.
استقر الاسم في ذاكرتي من دون
معرفة واقعية، ومن غير متابعة كافية لما يكتب، فمقالاته رصينة في معظمها، لكن يغلب
عليها الطابع الأكاديمي الجاف، وهذا لا يشجعني على متابعة هذه النوعية من الكتابة.
وقبل أيام وصلني إشعار لمقال جديد كتبه الكاتب في صحيفة "الشروق" بعنوان:
"القضية الفلسطينية.. ما لا يطرب المستمعين!"، وفتحت الوصلة فورا وقرأت
المقال وأنا أتحفظ في نفسي على استخدام لفظة "الطرب" في موضوع كهذا،
لأنه يوحي بنوع من الاستهزاء بالمتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وللأسف تحول تحفظي
إلى حالة من الأسف على ضياع ذكرى طيبة غرسها المستشار زكريا في نفسي تجاه كاتب محل
إعجاب من أصدقاء موثوقين؛ إلى كاتب "عادي" يكرر نفس الرسائل المتعالية
التي تخرج من العقول المحتلة، برغم انه في مقالات سابقة كان متوازنا ومعلوماتيا،
لكنه يكتب ما يناقضه بنفسه في المقال الذي لم يطربني بالفعل..
الكاتب هو الدكتور أحمد عبد ربه،
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة دنفر، واحتراما للمكانة المعنوية في الذاكرة أناقشه
فيما كتب:
(4)
يبدأ الكاتب مقاله بتحية الشعب
الفلسطيني العظيم(!) والتأكيد على عدالة قضيته التي تتآمر عليها القوى الدولية، ثم
يتحدث بنوع مقبول من النقد الذاتي عما أسماه "الفرص الضائعة" و"الشعارات
الحنجورية" و"غياب الرؤية الاستراتيجية" و"الحسابات الخاطئة"،
ويضيف إلى هذه العوامل الداخلية ما أسماه عامل "التدليس الدولي"..
ثم يتجاوز ذلك كله قائلا:
"رغم ذلك، في أوقات
كهذه، فإن مهمة الكاتب لا أن يسعد من يقرأ له فيسمعه ما يحب أن يسمعه أو ما يعتاد
أن يسمعه، ولكن مهمته أن يكتب ما يعتقد أنه صحيح، حتى لو أخطأ في تقديره فهذا أكثر
أمانة من إطراب المستمعين والسير في ركب القطيع دون محاولة النقد والتصحيح ولفت
النظر إلى الأخطاء، وفيما يلي بعض ممن لا نحب أن نستمع إليه عن القضية الفلسطينية:
أولا: من الخطورة شيطنة
الغرب
بلا تفرقة بين حكومات وأفراد ومنظمات مجتمع مدني!
ثانيا: من المؤسف عدم السماح
لأحد بنقد حركة حماس تحت دعوى أن نقدها مهادنة للغرب، أو تعبير عن الهزيمة
الداخلية(!) حركة حماس ليست فقط حركة مقاومة، ولكنها أيضا حكومة، وعليها مسئوليات،
ولديها أيديولوجية وبرنامج سيأسى، عدم التفرقة بين هذه المستويات المختلفة التي
تتعامل بها الحركة أمر في منتهى الخطورة، لأنه يستخدم الضحايا من الفلسطينيات
والفلسطينيين الأبرياء كغطاء على أخطاء الحركة وقيادتها في الداخل والخارج تحت
دعوى أنه لا وقت للنقد في هذه الظروف، وهو خطاب مكرر وفاشل(!) حماس أخطأت حينما
خطفت الأطفال والسيدات والعجائز يوم السابع من أكتوبر، أخطأت حينما قتلت سكان غلاف
غزة من الإسرائيليين المدنيين..
ثالثا: من علامات عدم النضج
واللعب على وتر المشاعر وتكرار أخطاء الماضي هو الحديث عن عملية طوفان الأقصى
باعتبارها بداية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر(!) هذا مجرد خطاب ساذج (حيث) لا يمكن
الحصول على فلسطين من البحر إلى النهر، ومن صالح الشعب الفلسطيني أن يتمسك بحل الدولتين،
وعدا ذلك هو بمثابة إطراب للمستمعين على حساب الحقائق، وترويج للشعارات.. وتمترس
خلف أيديولوجيات بالية سواء كانت إسلامية أو قومية!
رابعا: مما لا يحب الكثير
سماعه، أن التعاطي مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية دينية إسلامية فحسب، ليس
فقط رؤية محدودة.. لكنه أيضا خطأ استراتيجي يحول القضية إلى صراع ديني (يهودي- إسلامي) وهو
بالضبط ما تريده حكومة إسرائيل..
خامسا: من غير المجدي انتظار
النصر للقضية الفلسطينية من أطراف عربية أو غير عربية غير مستعدة لدفع الأثمان
الغالية لفتح جبهات قتال جديدة(!).
سادسا وأخيرا: من المؤسف
استسهال خطاب الحرب، ومحاولة دفع أطراف عربية -وفي مقدمتها مصر- لكسر الاتفاقات
الدولية ومهاجمة إسرائيل حربيا(!) إذا كان هناك قرار بالحرب، فيجب أن يكون هذا
قرارا عربيا بالإجماع، تشارك فيه الدول العربية وتتحمل مسئولياتها الدولية أمامه(!)
أما من يقفون خلف الشاشات والكاميرات للمزايدات على مصر تحت دعوى أن عدم دخول مصر
الحرب هو عدم الانتصار للقضية الفلسطينية فهم يدفعون مصر لاتخاذ قرار غير محسوب،
ستدفع مصر وشعبها واقتصادها فقط ثمنه بينما سيقف هؤلاء كعادتهم يمصمصون شفاهم في
أفضل الأحوال!".
ويختتم د. عبد ربه مقاله ناصحا
بضرورة "مخاطبة العالم بما يفهمه من مفردات، لا مجرد الاكتفاء بتوجيه خطابات
الاستهلاك المحلي، التي قد تفرغ مشاعر الغضب لكنها لم ولن تؤتى بالجديد للشعب الفلسطيني،
فهي خطابات منتهية الصلاحية ولا تصلح مع العالم المعاصر بقيمه السائدة وبتوازن
علاقات القوة فيها، فإما الانتصار للشعب الفلسطيني الأبي، وإما الاكتفاء بترديد ما
لا يسمن ولا يغنى من جوع(!)".
(5)
لست في موقف رد على الدكتور
عبد ربه، ولا أصادر عليه (أو على غيره) أي رأي مهما اختلفت معه، لكنني أبدأ بسؤاله
عن معنى علامات التعجب التي يسرف في وضعها في نهاية الكثير من عباراته.. هل هي
مقصودة؟ أم خطأ في وضع علامات الترقيم من جانبه، أو من جانب المدقق اللغوي في
الصحيفة؟! (وعلامة التعجب هذه المرة من عندي).
أولاً: من الخطورة طبعا شيطنة
الغرب، كما أنه من الخطورة أيضا شيطنة الغرب للإسلام، وشيطنة غير الغرب للإسلاميين،
فالسيد كيبلنج هو الذي أكد في قصيدة له أيام الهيمنة الاستعمارية للبريطانيين على
العالم أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. والمقصود بالهجوم على الغرب هو ما
ذكرته في مقالك عن "التآمر الدولي" وتطبيق القرارات الأممية لصالح
إسرائيل وعدم تطبيق ما يفيد الفلسطينيين في نفس القرارات.. النظام الدولي فاسد
وظالم وهو ما يبدو في كتاباتك بشكل عام، فحاول أن تتذكر ذلك دائما.
ثانيا: حركة حماس ليست مقدسة،
وليست فوق النقد، كذلك أيضا فإنها ليست مدنسة وليست مباحة للنقد والنض والمحو،
كانت سلطة، ثم صارت إدارة مدنية وحركة مقاومة مسلحة، وهذه مهمة تتهرب منها جيوش
نظامية تركت أسلحتها المشتراة بدماء وقوت شعوبها فريسة للصدأ، وصارت تتدرب على ضبط
النفس إطلاق التصريحات التي تسميها أنت "حنجورية"..
أما قطعك بإدانة حماس لاختطاف
مدنيين أو قتل سكان في غلاف غزة، فهذا اجتزاء لا يمكن مناقشته برصانة ويكفي
الإشارة إلى قفشة كوميدية في مسرحية "ريا وسكينة" تقول فيها سفاحة
النساء: "بنت الحرام عضتني وأنا بخنقها"..
نعم حماس عضت إسرائيل في
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لكن سبق ذلك خنق مستمر لأكثر من 17 عاما..
الرأي العام العالمي الذي
تخشى أن يقول: "أووه سوفاج القتيل بيعض قاتله بوحشية"، هو نفسه الرأي
العام الذي سيسأل ويتعرف ويفهم السياق وينتفض لإدانة حكوماته المنافقة مزدوجة
المعايير، حتى اليهود من غير الصهاينة لم يبالغوا في إدانة "العضة"
ويركزون طلباتهم على وقف المحرقة الصهيونية للبشر والحجر في غزة.
ثالثا: الحديث البراجماتي "المتغطرس"
عن حل الدولتين إذا تكرم به النظام الدولي، لا يعني أن تغلق الأبواب على المؤمنين
بهدف تحرير كامل التراب الفلسطيني، ولعلك تعرف في علم المفاوضات أن إعلان قبولك
بالحد الأدنى يؤدي إلى انخفاض المستوى على دون ذلك، وينصح المفاوضون دوما بطلب
الحد الأقصى للوصول تكتيكيا إلى المتاح، ثم الذهاب إلى ما بعده في مراحل تالية،
لأن حركة التاريخ لا تتوقف ومطالب الشعوب لا يمكن رهنها بمرحلة عجز رسمي عربي لن
تدوم.
رابعا: لماذا ننظر إلى هوية
حركة مقاومة أو تنظيم سياسي بنوع من التذمر والتنمر الديني، كأن الدين وصمة يجب
التخلص منها في العمل السياسي؟ ولا أفهم منبع الخطورة من فهم الصراع العربي
الصهيوني باعتباره صراعا من أي نوع هدفه تحرير الأرض، وإذا كانت الإشارات الدينية
عيباً يجب التخلص منه، فإن هذا ينطبق على الكيان الصهيوني ذاته. كما أنني يا دكتور
أعرف 24 دولة غربية (وطبعا هناك المزيد) تضع الصليب كعلامة دينية في علمها، وبعد
ذلك تريدونني أن أؤمن بقيم العلمانية الأوروبية المتنورة، وأتخلص من الدين الإسلامي
كمحفز في قضايا الصراع الدولي، وأخجل منه بوصفه دلالة تخلف عن معايير التطور
الفكري والقانوني في العالم الحديث!
خامسا: بخصوص انتظار الدعم من
أطراف عربية أو غير عربية (مثل إيران وأدواتها)، لأن أحداً غير مستعد لدفع أثمان غالية
لفتح جبهات قتال جديدة، يحضرني سؤال: وما المانع من انتظار الدعم من أي طرف قدمه
أو لم يقدمه؟..
مقالك يحتشد بمحاولة إرضاء
ونصرة المجتمع الدولي والراي العام العالمي ويستجدي حل الدولتين ويفتح البواب لمن
يرغب في الدعم، فلماذا نصادر على أي طرف عربي أو غير غربي احتمالية تقديم دعمه بأي
درجة تناسبه لقضية سياسية وإنسانية تشغل العالم كله؟! (وعلامة التعجب هذه من عندي
أيضا)
سادسا (وليس) أخيرا: الحدث عن
استسهال خطاب الحرب، ومحاولة جر مصر لكسر اتفاقات دولية ومهاجمة إسرائيل حربيا.. حديث
استاتيكي (ساذج بتعبيرك في المقال)، فليس هناك عيب في كسر اتفاقات دولية إذا تعارضت
مع أمنك القومي ومصالحك الاستراتيجية، كذلك إذا قدم الإلغاء رسالة احتجاج قانونية
وسياسية للمجتمع الدولي عن سلوك ما لدولة أخرى، وأذكرك بأن روسيا ألغت أثناء
كتابتك للمقال اتفاقيتين وأكثر تعبيرا عن رؤيتها، ولم يكن في ذلك أي كفر سياسي أو
حماقة تستلزم النصح، أما الحديث عن سهولة وصعوبة الحرب فيلزمه حديث طويل نأمل أن
يتسع له المقال اللاحق.
[email protected]