يحب البعض سجن النقاش مع الحالة
الإيرانية في مربع "
السنة والشيعة"، وتريح هذه الوضعية الخوض في التفاصيل، وهي مريحة لكل الأطراف، الذين هم ضد إيران والذين هم معها، فيكفي استحضار الغول "السني الشيعي" لتتخذ الأطراف مواقفها دون عناء البحث عن الحقيقة.
ولأن "الداعشية" من جهة أخرى جاهزة كل الوقت، فإن البحث عن التفاصيل الأخرى تصبح غير مهمة. فالحوار محسوم، والأطراف على أهبة الاستعداد، وأمريكا حاضرة هي كذلك، فهي دائمة التهديد لإيران، تتوعدها منذ الثورة الإسلامية. وإيران من جهتها تحسن استعمال كل المفردات عن "الشيطان الأكبر" ممثلا بأمريكا، وتسكب على نيران التهديد المشتعلة كلاما من النوع الذي يحب كثيرون سماعه بشأن "السرطان" ممثلا بإسرائيل، فتكون صورة "المحاور" المشكلة لغويا في مدرسة علي خامنئي وأحمدي نجاد، هي جل "الصراع" القائم: كلام وتصريحات وتهديدات، وعليه يتحول الاتفاق حول "النووي الإيراني" إلى مسألة عابرة، فيما النظام الذي ثبتته أمريكا في العراق بدباباتها وصواريخها على جماجم العراقيين؛ نظام ضمن "محور المقاومة"، وتشارك إيران في تدمير سوريا إربا إربا، وتكتشف أن كل الأطراف، بلا استثناء، تحارب داعش، أمريكا وروسيا ونظام الملالي في إيران ونظام "المقاومة "في العراق، وكلها تدمر سوريا، بالشراكة، فكيف تفكك هذه المعادلة العجيبة؟
هذا الأسبوع قرر الكونغرس فرض أو "تمديد"
العقوبات على إيران، ولأن المفهوم ضمنا أن أمريكا تعاقب "محور الشر" والدول "المارقة " كما أسماها نعوم تشومسكي، فإن الاستنتاج الطبيعي أن إيران تدفع "ثمن" مقاومتها، ولا يجوز ولا يصح، انطلاقا من هذا، محاسبتها على أي فعل تقوم به، ولو كان على شاكلة إبادة كما في سوريا.
تحب إيران ومن حولها التعامل معها وتقييم دورها انطلاقا من كونها شيعية، فهذا يزيد من حالة "الالتفاف الشيعي" حولها، وهو من الجهة الأخرى يفتضح من يختارون الوقوف أمام إيران على هذا الأساس، على أساس "سني".
تجيد إيران للغاية لعب دورها بعيدا عن جوهر مشروعها، وهو يستهدف العرب والسنة كذلك، وتنجح في تثبيت نفسها قائدة لمشروع مقاومة الهيمنة الغربية والأمريكية خاصة، رغم أنها تشارك هذا المشروع عملية التدمير والتفكيك والإبادة والتقسيم.
كان السؤال الحاضر في وعي الناس على امتداد سنوات، ومنذ احتلال العراق عام 2003، بشكل خاص، متى ستنشب الحرب، ومتى سيتم توجيه ضربة عسكرية لإيران؟، واشغل الإعلام بهذا السؤال بشكل لم يتوقف معه، وبدت الحرب التلفزيونية بين إيران وأمريكا وإسرائيل هي الجبهة الأكثر اهتماما، مقابل حدث مثل احتلال العراق وتدميره. وعلى الرغم من غرابة الحالة، إلا أن الإعلام نجح في محاصرة وعي الناس على النحو المأساوي الذي كان، ليس المهم ما يحدث على الأرض كما في العراق، وإنما ما يقال في التلفزيون، كما في إيران.
التصميم على الكذب والتضليل
يأتي قرار الكونغرس بشأن فرض "العقوبات" على إيران لمدة عشر سنوات، بالضبط في ذات الأسبوع الذي تعترف به إسرائيل بأن لإيران ملكية وشراكة في الشركة التي اشترت منها الغواصات من ألمانيا، ولا تلقى مثل هذه المعلومة أية أهمية، بالعكس حتى وزير الأمن الإسرائيلي الذي يبدي "تطرفا" للغاية تجاه إيران، أفيغدور ليبرمان، يؤكد أن الأمر معروف وأن المسألة عادية للغاية. إذن كيف نوفق بين "العقوبات" الأمريكية وبين اعترافات ليبرمان؟
بالضبط هنا تكمن "الكذبة الإيرانية"، والتي عبر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مباشرة بعد توقيع اتفاق "النووي الإيراني" بصريح العبارة: "مخطئ من كان يعتقد أننا كنا بصدد توجيه ضربة عسكرية لإيران".. جواب أكثر من واضح، للتدليل على "الكذبة الإيرانية".
ومن الوارد للغاية أن يدعي البعض أن هذه مجرد تصريحات لا يمكن الاعتماد عليها لفهم طبيعة الدور الإيراني، الذي يصنف كمعادي للمشروع الأمريكي والصهيوني.
من جهتنا، سنقبل مثل هذا الادعاء، لكن من جهة أخرى لا بد من إيجاد مرجعية نقيم بها حقيقة وجوهر الموقف والعلاقة بين إيران والمشروع الأمريكي، والصهيوني، ما زلنا لا نفضل تقييم الدور الإيراني لاعتبارات "مذهبية"، كما يطالب البعض، وأحيانا بحق؛ لأنها تبعدنا عن جوهر.
أعترف أنه لا محالة من أخذ الاعتبارات "المذهبية" لدى إيران بعين الاعتبار، ليس لأنها تستهدف أهل السنة كنا يظن البعض، بل لأنها تمنحنا فهم سلوكيتها السياسية بشكل أفضل، وتحديدا مفهوم ولاية الفقيه وانعكاساته على الحالة السياسية لدى إيران.
سنكتفي هنا بطرح بعض القضايا التي تمكننا من فهم العلاقة بين إيران والمشروع الغربي والأمريكي والصهيوني، هل هي علاقة تناقض أم تكامل؟
على هذا السؤال تمكن الإجابة فقط استنادا للعلاقات القائمة على الأرض، في الواقع، الصدام والمواجهة، وليس "اللغة التلفزيونية"، ليس الصراخ ولا التهديد والوعيد والشتائم، والتصريحات العدمية. الدور الإيراني بالشراكة مع أمريكا، بشكل خاص على الأرض، يفوق أي خيال سياسي مفترض، وهو يصل إلى حد التحالفات الشيطانية على أنواعها، الشيطان الأكبر وإخوانه جميعا.
يجيب بعض المحللين حول علاقة التحالف إلى حد التكامل بين إيران وأمريكا في العراق، إلى مسألة المصالح التي التقت بين الطرفين، وهذا صحيح للغاية، لكن شرحه غير مكتمل.
حين تلتقي مصالح إيران مع أمريكا في العراق لصالح تقسيم وتدمير البلد وتغيير ميزان الديموغرافيا الطائفي لصالح
الشيعة، فإن المسألة لا تصبح مجرد لقاء مصالح، هذه توافقات إيديولوجية، لا تصبح إيران مجرد لاعب بل شريك، والفرق كبير.
إعادة بناء وهندسة البلاد على النحو الذي وضعه المشروع الأمريكي منسجما مع الرؤية الإيرانية، لا يصبح مجرد مسألة عابرة.
في أفغانستان لعبت إيران دورا قذرا باعتراف الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي: "لولا إيران ما دخلت أمريكا أفغانستان".
لإيران مشروع، مشروع يستهدف العرب وأهل السنة، مؤخرا تتحدث عنه علانية، بشكل واضح، ما تقوله حول سوريا مرعب، ما تفعله على الأرض مريب، تتدخل إيران في الشأن العربي والسني علانية، لكنها تفعل ذلك في سياق تفاهمات مع المشروع الأمريكي.. التفكيك والتقسيم والتدمير في سياق الشراكة هذه هي أهم سمة لما ينفذ على الأرض، التحالف الحقيقي القائم على الأرض، بالشراكة أو الصمت أو التوافق، بحسب خصوصية البلد.. هذه هي السمة الأبرز السائدة بين أمريكا وإيران.
عن أهل السنة
في الوقت الذي تنجح به إيران نجاحا باهرا في تحويل نفسها إلى حامية الشعوب من "الغطرسة الأمريكية"، تنزلق ما تسمى بأنظمة السنّة باتجاه مزيد من التعاون مع المشروع الأمريكي، وتحاول جاهدة إنقاذ نفسها أو تجييش شعوبها لصالح مواجهة بين أهل السنة والشيعة، والحقيقة من جهة الأنظمة ليست على هذا النحو بتاتا، فهي تستعمل هذه الورقة لصالحها لمواجهة مصيرها الآيل للسقوط، وهي لا تقل تأمرا على شعوبها عامة، وعلى أهل السنة بشكل خاص. مواقفها وسلوكيتها في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا والسودان.. فقط تكشف أنها وإيران وجهين لعملة واحدة، مع فارق بسيط، أن إيران نجحت في تسويق نفسها عدوا لأمريكا، فيما ما يسمى بأنظمة السنة، نجحت في تكريس عمالتها وتبعيتها.